لماذا تغيبُ رنّةُ « السّين « الجميلة عن ألسنةِ بعض مذيعات الأخبار هذه الأيّام؟ ولماذا يختفي الجِرسُ الرّقيق لحرف « التّاء « فتُلفظ « ط « ؟ ثمَّ لتتحوّل « الدّال « إلى « ضاد « بقدرةِ قادر، وفيما يلي بعضُ الأمثلة :
كلمات مثل تنسيق تُلفظ: طنصيق... التقى: الطقى... تدقيق: طضقيق.... يعني مسلسلٌ صوتيٌّ عجيب من تفخيم الحروف بأسلوبٍ يستفزّ الأذنَ والأعصابَ لتزيد من منسوب الغمِّ الموجود بسخاء في مضامينِ الأخبار أصلاً
هذا إضافةً إلى أنَّ « ال « التّعريف تُلفظ عن سبق الإصرار بهمزة القطع الحادّة الصّارمة، مثل القول:
أل – مملكة أل – أردنيّة أل – هاشميّة... فتختفي الانسيابيّة الجاذبة لهمزة الوصل ليحلَّ مكانها هذا النّطق المشوّه لموسيقى الّلغةِ العربيّة وقواعدِها الصّوتيّة، ثمَّ لتتكرَّرَ بعضُ الأخطاء الشّائعة على لسان المذيعين كذلك من مثل: كافّة المواطنين بدل المواطنين كافّة، ومُلفِت بدل لافت... واستخدام « من قِبل « بدل استعمال الفاعل في العبارة... والأمثلةُ عديدةٌ لا يتّسعُ المجالُ لعرضها هنا.
إزاء تلك الخروقات، التي تُرافقها غالباً الهفوات النّحوّية المعروفة، بات الاستماعُ للأخبارِ معاناةً مركّبة، لكن ومن منطلق الموضوعيّة، قد لا نلومُ تلك الفئةَ من المذيعين، بقدْرِ ما نلومُ تاريخاً ممتداً في تدريس العربيّةِ بأكثرِ الأساليبِ تنفيراً... فقد اجتهدَ بعضُ عتاولة الّلغة في التّفننِ بتدريس المهارات النّحوّية بطرقٍ لم ينتج عنها سوى توسيعِ الفجوة والخصومة بين الأجيال ولغتهم، وبخاصّة مع إصرار بعض المدرّسين على اعتماد الشّواهد النّحوّية الصّعبة أو المعقّدة لإيصال المعلومة، بدلَ استخدام لغة الحياة اليوميّة التي يُحسنُ الطّالبُ استيعابَها والتّفاعلِ معها.
جاء في سيرةِ حياةِ المفكّرالإسلامي المستنير « محمّد عبده « قبل ما يزيدُ عن القرنَ من الزّمان أنّه هرب من الكتّاب في عمرٍ مبكِّرٍ حين أصرَّ الشّيخ المعلّم على تدريس الطّلاب عشرة وجوه لإعراب البسملة وحدها فقط.
بقايا هذا الإرث في تدريس العربيّة ما زال موجوداً، لكنّه ليس تبريراً مقبولاً للعاملين في مجال الإعلام الإخباري تحديداً، فمن العجيب أن تندفعَ فضائياتنا لمنافسة تلك الأجنبيّة بالدّيكورات والإخراج وهيئة المذيعين وحركاتهم وجلساتهم ثمَّ لينسوا أصولَ إعداد المذيع وحسنَ تأهيله...
يُقالُ مثلاً إنَّ مثل تلك القنوات المعروفة تشترطُ أن تتّسمَ أسنانهُ بحسنِ الإطباق ليضمنوا وضوحَ مخارج الحروف لديه، كما أنّها لا توظّف المدخّنين، أو من يعانون من مشاكل في جيوبهم الأنفيّة، أومن أيّ عارضٍ يتعلّقُ بالجهاز التنفسّي، أو في جهاز النّطق عموماً، كما يتلقّى المتدرّبُ في مختبراتٍ خاصّة دوراتٍ في فنون التّنفّسِ، وفي حسن الفصلِ والوصلِ بين الجمل، هذا مع امتحاناتٍ عسيرة في الثّقافة العامّة وشؤون السّياسة تحديداً، وغالباً ما يكون المذيعُ هو المحرّرُ الذي يكتبُ النّصوصَ والتّقاريرَ الإخباريّة بذاته فيقرؤها بروحٍ متفاعلة وبعقلٍ واعٍ للخبرِ وما ورائه.
أمّا المدّققُ الّلغوي، فيُلازمُ غرفة المتابعة بيقظةٍ تامّة لرصدِ الأداء ومتابعته حرفاً بحرف دون تسامحٍ أو تساهل تحت أي ذريعة... ففي الإعلام الإخباري المسموع والمرئي قد لا يشفعُ للمذيعة أو المذيع الصّوتُ الرّخيمُ وحدَه، ولا الجمالُ أو الوسامةُ كذلك، إنّها المهنيّة العالية فقط، تلك التي لا يمكن أن تتحقّق إلا بالتّعبِ والاجتهادِ والمواظبة والدّربة والصّبر الجميل، المهنيّةُ وحدَها هي التي تؤهّلُه للجلوس وراء ميكرفون، أو أمام كاميرا أخبار... إذ هي الكفيلةُ دون غيرها بإضفاء الجاذبيّةِ المنشودة على حضورِه.
الرأي