الظروف التي تحيط بالرئيس الفلسطيني محمود عباس، ظروف خانقة فلسطينياً وعربياً وإسرائيلياً وأمريكياً، فالرجل بات يرى بأم عينيه عملية نقل السلطة إلى حليفه السابق، غريمه الحالي ماجد فرج مدير المخابرات العامة الفلسطينية الذي بات مصدر الثقة المطلقة من قبل إسرائيل والولايات المتحدة.
الآن وبعد أن قدم الرئيس عباس كل ما كان قادراً على تقديمه لخدمة مشروع السلطة والتحالف مع إسرائيل وابتعد لمسافات طويلة وفاصلة عن المشروع الوطني، اكتشف خلال الأشهر الأخيرة خطأ حساباته الإستراتيجية، وبخاصة في ما يتعلق بشكل الحل مع إسرائيل ورفضها لمبدأ حل الدولتين وأيضاً لحل الدولة ثنائية القومية، وذهاب نتانياهو نحو حلول جديدة لا تراعي أبسط عناصر الحل الوطني الفلسطيني والحقوق الوطنية الفلسطينية مثل حل "الوطن البديل" في سيناء الذي تحدث عنه نتانياهو في مؤتمر "الايباك" قبل أسبوعين في واشنطن والذي تشير التسريبات إلى أنه العنصر الأهم في ما يسمى "صفقة القرن".
لا أدري إن كان الرئيس أبو مازن قد ضُلل طوال تلك السنين من رئاسته للسلطة ومنظمة التحرير من قبل إسرائيل أم لا ؟، لكن ما أنا متيقن منه هو أن الرجل كان مدافعاً شرساً عن الحل السلمي ورافضاً بقوة لأي حل يصنعه ما كان يطلق عليه "العنف"، وللحق فالرجل في موقفه هذا كان منسجماً ومتصالحا مع نفسه إلى أبعد الحدود، فهو لم يغير جلده أو ينقلب على ذاته ولكنه اكتشف اليوم وبشكل قطعي أن إسرائيل لا تريد السلام تحت أي شكل أو عنوان وهو ما أصابه باليأس، وما زاد يأسه هو الموقف الأمريكي حيث توهم أبو مازن أن إدارة ترامب ستكون إدارة جادة في صناعة السلام وإدارة متوازنة ووسيطاً نزيهاً على عكس إدارة اوباما التي لم تكن تولي الملف الفلسطيني الأولوية المطلوبة.
اليوم اكتشف "العجوز" أبو مازن أن كل ما سمعه من إدارة نتانياهو منذ 2009 إلى اللحظة الراهنة كان مجرد كذب في كذب وخداع في خداع، ولهذا ينقل عنه أنه يمر في حالة من اليأس والإحباط وشعور بالمرارة من المراوغة الإسرائيلية، وأيضاً شعور بالإحباط من التوجهات الأميركية التي طفت على سطح المشهد السياسي بكل وضوح ومن أبرز هذه التوجهات، القدس عاصمة أبدية لإسرائيل، إغلاق ملف اللاجئين، إقامة دولة فلسطينية فوق التراب المصري في سيناء، وهي ثلاثة مبادئ تنهي تماماً فلسطينية القضية وخصوصيتها النضالية والكفاحية، وتحيلها إلى قضية إقليمية تتنافس فيها وعليها جهات إقليمية عدة.
يستشعر الرئيس عباس الخطر الذي بات يحدق به وبقيادته بعد استفحال مرضه واستفحال الغطرسة الإسرائيلية – الأمريكية في التعامل معه مع القضية الفلسطينية وهو الأمر الذي بات يفقده القدرة على ضبط أعصابه تجاه إسرائيل وواشنطن، وتحول إلى متلقّ للصدمات التي بات عاجزاً في الرد عليها إلا من خلال التصريحات الشاتمة على غرار تصريحه الأخير قبل أيام الذي وصف فيه السفير الأمريكي لدى تل أبيب ديفيد فريدمان بأنه "ابن كلب" على خلفية تصريحاته التي اعتبر فيها الاستيطان شرعي.
معادلة الزمن تسير عكس إرادة الرئيس عباس وكل يوم يمر يرى أبو مازن كيف أن آلة التغيير الأمريكية – الإسرائيلية تقترب من اللحظة الحاسمة المتمثلة في إبعاده عن المشهد والمجيء بالبديل ليستكمل الدور الذي رُسم له تماماً على غرار الدور الذي رسم لأبي مازن قبل عقد ونيف بعد استبعاد الشهيد ياسر عرفات بـ"الموت".
المشهد الفلسطيني القادم تتحكم به أصابع إسرائيلية وأمريكية وعدد محدود من الأصابع العربية التي لا تستطيع بأي حال من الأحوال مناطحة الإرادة الصهيونية – الأمريكية ورؤيتها في ما يخص "تقرير المصير الفلسطيني".
24: