وأنت تتجول في أي "مول" في الدوحة، سيلفت انتباهك أو فضولك على الفور أنْ ليس من أحد عابئ أو منشغل بما ستؤول إليه نتائج القمة العربية التي ستلتئم اليوم على مقربة من أولئك الماضين في ابتياع حوائجهم والتهام الوجبات السريعة والتفرج على شابين يتزلجان بمهارة وخفة على الجليد الذي يتوسط ساحة "المول" السفلية.
وكان بمقدور مباراة كرة قدم كالتي خاضها وخسرها المنتخب القطري أمام نظيره الأوزبكستاني في تصفيات الحسم الآسيوية لكأس العالم أن تجمع الناس وتستفزّ مشاعرهم وغضبهم على نحو أكثر بكثير مما تفعله القمم العربية كافة.
مباراة كرة قدم في مقابل قمم العرب، فلمن يكون قصب الاهتمام والحماسة، ولمن تكون الغلبة؟
الاهتمام الجماهيري الذي بدا هاهنا، وربما في كل مناطق العالم العربي، يكشف أن "الفوتبول" ينتصر دائما على "الميكروفون"، لأن الأول يسلّي ويمتع ويثير، ولأنه، فضلا عن ذلك، حقيقي ومكشوف ولا خبايا فيه أو ضغائن. إنها لعبة تنتهي بمجرد أن يطلق الحكم صافرة النهاية.
بيْد أن "ميكروفون" القمم والتحضيرات التي تسبقها ممل ويثير الضجر ويجترّ الكلام ذاته، علاوة على أنه لا يعري، كما يفعل "الفوتبول" النوايا الداخلية الهاجعة في قلب المتكلم الذي يعطيك من طرف اللسان حلاوة.
عند "الميكروفون" ينعدم الانكشاف، وبالتالي الاكتشاف، فتتوارى الشفافية، ولا تكون ثمة من إثارة إلا بمقدار ما يتركه "الميكروفون" من خيبات وهزائم جديدة تثقل كاهل الناس الذي ملّوا الخطاب عينه الباعث على السأم والمفجّر آبار القنوط، حيث أضحى "الناس في واد والزعماء في واد آخر"، على ما عبّرت عنه بائعة الصابون في أحد المتاجر الكبيرة هنا في الدوحة.
الصابون، وخصوصا النباتي منه يغسل ليس فقط القلوب، وإنما يزيل البثور ويعالج التقرحات الجلدية المزمنة. لكنّ الشابة المغربية التي تعمل في الفندق تعتقد بخلاف ذلك، فـ"كل صابون العالم لن يزيل خلافات الدول العربية أو يستأصلها" كما همست لي بصوتها المتهدج ولهجتها الحاسمة.
قطر أعدت، بهدوء وبلا جلبة، ومن دون أي مظاهر أمنية واضحة، كل ما تتطلبه القمة من العناصر اللوجستية لإنجاح هذا اللقاء. لكنّ ما لا تقوى عليه قطر أو أي دولة هو إنتاج وتكريس المناخات التوافقية الصميمية التي تعيد لاجتماع الزعماء العرب بريقه الذي يضاهي، أقله، بريق مباراة كرة قدم تجمع فريقين آسيويين في طشقند.
القطريون ذهبوا في طائرات خاصة وملأوا المدرجات في ملعب "باختاكور" في أوزبكستان، لكنهم لن يفعلوا ذلك مع القمة، كما هو الحال مع بقية الشعوب العربية، وربما لن يكترثوا بأخبارها، لأنها لا تمس حياتهم ولا تؤثر على مجرياتها، بخلاف القمم الأوروبية، مثلا.
في أوروبا يتلمس المواطن قرارات قممه واجتماعات دوله من خلال تحسن مباشر يطرأ على حياته ويمس معيشته ومستقبله وغذاءه ودواءه، بينما ينشغل وزراء الخارجية العرب بالتصويبات اللغوية للكلام الذي يتكرر منذ قمة أنشاص، ويرمقون بعضهم بعيون يكاد يتطاير منها الشرر، فما بالك بالقلوب؟
المصالح وحّدت أعداء الأمس الذين أغرقت دماء جيوشهم شوارع أوروبا، فصاروا رغم تناقضاتهم الفادحة أصدقاء وحلفاء. أما نحن المتحدرين من منبع واحد فلا نؤول إلى مصب واحد، مخالفين بذلك سنّة الطبيعة ومنطق التاريخ.
أكتب هذا الكلام وأطل من فندقي فأرى السواري ترفرف بأعلام زاهية بمختلف الألوان، فأحاول أن أتذكر بقية النشيد العريق: بلاد العرب أوطاني، فتخذلني ذاكرتي..
كل قمة ونحن أقل تشرذما وتفتتا.
m.barhouma@alghad.jo