نحن نفهم ان التاريخ ملك لأجيال الامة .. ونفهم ان هنالك حاجة وطنية وقومية لاطلاع اجيال الامة الجديدة على حيثيات التاريخ لما لذلك من اهمية ضمن عملية ضرورية لاستشراف المستقبل. وانا شخصيا كقومي التوجه والفكر ومتابع لاحداث الشأن العام، استغربت .. وشعرت بحالة من الاحباط الشديد لمحاولة الاستاذ هيكل ان يشخصن التاريخ.. وان يبيح لنفسه تفسيرا يقدمه على انه تفسير قاطع لاحداث تاريخية قريبة لا زالت اجيالها على قيد الحياة.. ولا زالت حيثياتها تتكشف عبر خط زمني طويل وممتد، وسيتطلب فترة زمنية ليست بقصيرة ليظهر شواهد نهائية على تاريخ امة.
لا استطيع ان افهم وليعذرني السيد هيكل... كيف لنا كأمة محترمة قادمة من اعماق التاريخ ان نسمح لشخص مهما بلغت به القوة والامكانات الفردية ان يكتب تاريخ امة بمفرده، وهل يجوز لرجل بحجم هيكل وامكانياته ان يبيح لنفسه تفسير تاريخ امة على انه سلسلة متتالية من حلقات المؤامرة.. دون الالتفات الى المعطيات الحضارية والجيوسياسية.. ولجدلية التعامل مع احداث ومعطيات تتفاعل في بيئة تتدافع فيها كل الاشياء باتجاه الهاوية ، ولفترة زمنية طويلة وممتدة.
ان من الظلم للملك الراحل الحسين ان يجري تفسير مواقفه بهذه الطريقة.. ان قيادة القوارب الصغيرة – يا استاذ هيكل - عبر محيط تتقاذفه امواج عاتية يختلف بالتأكيد عن قيادة سفينة كبيرة في ذات المحيط الهادر. وان القبطان البارع هو ذلك الشخص الذي يقود مركبه الصغير وهو يدرك انه يتفاعل مع معطيات ليس هو الفاعل الوحيد فيها وانه لا يتصرف في فراغ.. وان قوى اخرى في المسرح الاوسع حوله تؤثر وتتأثر بطريقته في التصرف واتخاذ القرار، وان شبكة واسعة من المعطيات والمؤثرات تتفاعل حوله وتمارس ضغوطا هائلة على طريقته في القيادة، وبالتالي على النتائج التي يسعى الى تحقيقها.
ان قبطان المركب الصغير هو شخص يدرك ان عليه ان يرقب بيقظة عالية المشهد العاصف ويوجهه لمصلحة متطلبات سلامة ذلك القارب .. وهو يعلم ايضا انه مضطر ان يتعامل مع المشهد بكل تفاصيله الكبيرة والصغيرة .. يقترب منه او يبتعد دون السقوط في احدى حوافه الخطرة.
هذا هو التوصيف الفكري لما كان يجري مع الحسين – يا استاذ هيكل - ، فقد وقف مع العراق عام 1990 لاعتقاده ان مصلحة الامة تتطلب هذا الموقف.. ذلك الموقف الذي اقترب فيه كثيرا من احدى حواف المشهد الخطرة.. لكنه لم يسقط فيها كما تعلم. ووقف الى جانب الشقيقة الكبرى مصر عبد الناصر اثناء العدوان عليها عام 1956، وكان واجبا قوميا عظيما ان يقف ومن وراءه شعب الاردن "الصغير" الكبير. ووقف الى جانب الامة في حرب عام 1967، واقترب وقتها كثيرا من احدى اكثر حواف المشهد هولا وخطورة.
اذن، يا استاذ هيكل، لنتحاور كرجال حريصين على مصلحة الامة.. حوارا فكريا عميقا دون ابتذال.. حوارا يرقى الى مستوى الامة التي تشكل الوعاء الذي نتحرك من خلاله.. والهدف الذي نسعى الى تجسيده .. ولنستبدل الميل السطحي والمبتذل لتخوين من قيض لهم قيادة الامة في مراحل شديدة الاضطراب من تاريخها بمعاينة منصفة لاجتهاداتهم السياسية ولتضحياتهم الكبيرة لمنع مأساة اغتصاب فلسطين، واعترافا بما قدموه رغم هول المؤامرات على امتهم وقلة الامكانيات واضطراب المعادلات الموضوعية حولهم فقد واصلوا التصدي بكل الطرق الممكنة لاطماع العدو المغتصب.. لذلك علينا ان نشكرهم لا ان نكيل الاتهامات لهم.
ان علينا ان لا ننسى اننا لا زلنا كأمة امام مشهد لحالة امة تترنح في عين العاصفة، واننا اذا فقدنا - ونحن نتعامل مع معطيات هذا المشهد الصعبة - البوصلة الفكرية الدقيقة سنسقط جميعا ومعنا الامة في احدى حوافه الخطرة.. وسنغرق في وحول التاريخ.. ومع الاسف لن يبكي علينا احد..