لانعرف لماذا نتجاهل التفاصيل بهذه الطريقة، ونستذكر مانريد، ونتعامى عما نريد، ونصوغ آليات الصحوة، بطريقة تؤدي الى غفوة بلا حد او حدود في العالمين العربي والاسلامي.
اذا ضربنا مثلا، بمعركة حطين وصلاح الدين الايوبي، لاكتشفنا ان الذهنية العربية قائمة، على الرمز وتقديسه، فقط، دون ذكر للمجموع، او الفريق او المجموعة، ومازلنا نتحدث عن بطولة صلاح الدين، وبسالته، وتحريره لفلسطين، ولااحد يتذكر حتى الاف الشهداء والجرحى، والذين تبرعوا بأموالهم، والامهات والزوجات، اللواتي انتظرن كل المقاتلين الغائبين، في ارض المعركة.
هذا ليس مساسا بصلاح الدين، لكننا نطرح مجرد نموذج على تغييب اهمية المجموعة، لصالح الرمز، وحتى هذه الايام، مايزال العرب ينتظرون الرمز الغائب، يريدون قائدا من نوع مختلف، قائدا صانعا للمعجزات، ساحرا، لديه قدرات في قلب كل شؤون الامة، ولا احد يحدثك عما يفترض ان يفعله الناس ايضا، بل ان اللوم ايضا، ينصب على الرموز باعتبارها فاسدة، او غير مهتمة، ولااحد يتحدث عن الناس، ومافيها من علل، او ثغرات، او حتى خير وسمات حسنة.
كل الامم تركز على الرموز، واذا ذهبنا الى ثقافات وحضارات، لوجدنا للرموز مكانتها، لكن لا احد يفصلها عن المجموع العام، وفي الاغلب تتم صناعة الرموز بطريقة مختلفة، عبر ربطه ابالمجموع، وبقصص لحالات فردية، وجمعية، فلا رمز منفصل عن الناس، ولايجوز تغييب الفعل الجمعي، او نسبه فقط الى القائد، صاحب المعجزات، في اي ثقافة او حضارة.
حتى في ثقافتنا يتم الحديث عن اسماء شهيرة في الثقافة الاسلامية، من الصحابة وغيرهم، لكن تغيب عشرات الاف الحكايات، لعشرات الاف المؤثرين في صياغة التاريخ الاسلامي، وتنحصر كل التركيزات على اسماء محدودة، فأين بقية الاسماء، واين الفعل الجمعي، ودور المجموع في التغيير، وصناعة المستقبل، ولماذ يتم حشر عشرات الاف الاسماء في اطار المبني للمجهول؟.
ربما فهمنا لحقيقة التغيير، فيه نواقص كثيرة، ولو تأملنا على سبيل المثال الوضع السياسي في دول عربية عديدة، لوجدنا ان الكل لا..يتحدث عن المؤسسة، ومافيها من خروقات واشكالات، ولا عن الناس وصعوبة التغيير، وكونهم جزءا من المشكلة، بل ان الكل يتحدث عن الرموز، يريدون رئيسا مختلفا، او رئيس حكومة يقلب الاوضاع، ونتعامى في الحديث عما في القاعدة الشعبية من اشكالات، حتى ان فساد الناس، ليس مهما، بل فساد الكبار فقط.
لعل المفارقة ان يخرج لك احدهم ليقول لك ان فساد الصغار سببه فساد الكبار، وهذا على صحته، الا انه يعفي المجموع من المسؤولية، ويرميها كالعادة على الرمز من ناحية سلبية في هذه الحالات، مثلما يتم نسب البطولة الى الرمز، وتناسي المجموع ايضا.
هذا خلل في الذهنية، خلل كبير، لابد من معالجته، فلم تعد احوال هذا الزمن قابلة للادارة بهذه الطريقة، اي تغييب كل الشركاء الايجابيين، في اي بلد، لصالح الرمز الملهم المؤثر الكبير،مثلما هو التعامي ايضا عن سلبيات الناس، لصالح اتهام الرمز بأنه اصل الخراب، ومنبع التراجعات.
في ظلال هذه النظرية، تكاسل قومي، عز نظيره. حالة سبات لاسابق لها. الكل ينتظر المخلص والرمز، ولااحد يريد ان يدقق في القاعدة، ومافيها من اوجه خلل، وحاجة الى اصلاح، وكأن الاصلاح بحاجة فقط الى رمز كي يأمر به، او يفرضه، وفي هذا الافتراض مهانة، لاننا نقول عمليا ان اكثر من مليار ونصف المليار عربي ومسلم، في حالة موت سريري، بانتظار الرمز، فأين هي آليات النهضة في بواطن هذه الشعوب التي قد تكون سببا في فرض رؤيتها على الرموز والمؤسسات؟.
مازلنا بذات الطريقة. كل تركيا يتم ترميزها ايجابا او سلبا بأردوغان. ولا كأن هناك شعبا او مؤسسات. كل فلسطين يتم ربطها بياسر عرفات، في سابق عهده، ولاكأن هناك ملايين اللاجئين والشهداء والجرحى والسجناء، وكل احلامنا ترتبط بخروج قائد مخلص، يأتينا من غامض الغيب.
هذا الواقع سيؤدي الى مزيد من الشلل.لقد ثقلت هذه الامة، وجلست الى الارض؛ لان افتراض التغيير يعتمد على نظريات غير منطقية، اولها انتظار شخص واحد ليقلب الدنيا ، لكن لااحد يقول لك كيف يستطيع هذا الشخص او الرمز، فعل كل هذا اذا كانت القاعدة غير مستعدة، او منهارة اخلاقيا او اجتماعيا.
اصل كل هذا الكلام، تاريخي، ومرده الى اعتيادنا تاريخيا، تغييب المجموعة او الفريق او الشهود، والتركيز على شخص واحد، وانا لاانكر هنا، ان سياسات اي رمز قد تنجح بالتغيير، لكن من الاستحالة ان ينجح دون المجموع، او سبب ضغط المجموع عليه، وهذا يعني ان استعادة قيمة المجموع، وتحفيزه وتذكيره بمسؤولياته، وتكريمه ايضا في الذاكرة والفعل، امر ضروري جدا، والا سنبقى نحلم بالمخلص الذي لن يأتي لشعوب مهزومة.
ينجحون في العالم؛ لان لديهم مؤسسات، ونفشل لاننا نغيّب المجموع لصالح الشخص، وهكذا نعود ونقول ان صلاح الدين الايوبي، كان بطلا، لكنه لم يكن البطل الوحيد!.
الدستور