لسبب ما لا تفسير له عندي، أجد في جاري الدانوب ما يشبه امي في فيض العطاء..
ها أنذا في أسترغوم، البلدة الاوروبية الصغيرة والعريقة حيث أقيم طلبا للعلم، أجلس في مقهاي.. في يوم مشمس وبرده قارس أبحث في ذاكرتي فيه عن دفء تركته في بيتي هناك حيث أمي.
حسناء مجرية تعد قهوتي بينما سيدة كبيرة منهمكة بحل كلماتها المتقاطعة على مجلة، وفي الزاوية كهلان يتجادلان وأخمن أنهما يجتران ماضيا ودعهما بقسوة، وبجانب النافذة المطلة على الشمس وتعزل البرد هنالك سيدتان منهمكتان بحديث فائض من القلب كما يبدو على وجهيهما، وانا أقرأ كل تلك الوجوه بينما نادلة المقهى تنشغل بالطلبات وابتساماتها كافية لتذوب كالسكر في القلب.
وانا انظر في سكون قهوتي وسوادها اللذيذ فأستذكر امي الجميلة، نعم، بلاشك أن كل الامهات جميلات لكن امي هي الاجمل، وهذا قد اقسم به اغلظ الايمان فهي امي ولا ينافسني بمنسوب حبها الا أربعة إخوة، كلنا حظينا بحصتنا من حنينها ورعايتها وارهاقها.
انا اصغر اخوتي وعليه فربما قد حظيت بمساحة حب إضافية من امي التي تقاعدت من مهنة التدريس بعد مولدي مما جعلني اقدس في شبابي فنجان قهوتي الصباحي معها، امي مدهشة بتحضير القهوة حين تضع القليل من السكر، ولم أخبرها يوما اني اشرب قهوتي بلا سكر، فمعها ليست القهوة هي الغاية فمجالستها هي الحكاية الاجمل في قلبي لأي صباح تكون قهوتها فيه هي المبتدأ، وأنا خبرها وهي اكتمال الجملة المفيدة في حياتي.
هي امي وهي اجمل الحكايات سردا واجمل النساء وصفاً، هي اول من عرفت على هذه البسيطة، وبحبها عرفت الحب وبقلبها علمت الطيبة، وبقبلتها سرحت بالطمأنينة، هي لي انا الشقي باغترابي كل الوطن.. وهي لي المبتعد عنها كل الأمل.
مرتجفا مطمئنا اكتب هذا النص، فهي امي وأي ما كتبت فسيعني لها الدنيا وهذا ما تمتاز به الامهات..فقط الامهات، ومرتجفاً عالماً اني لن اوفيها حقها، فمهما كان قاموس الكلمات غنياً بالمفردات في وصف الام فلا شيء يعطي المعنى اكتماله إلا الأم ذاتها.. كل الامهات جميلات كلهن لهن المحبة ولهن كلهن اعوام ممتلئة بالخير والصحة. والسعادة لهن ولأبنائهم..اكتب لكافة الامهات فكلهن الاجمل بنظر ابنائهم.
حسنا، لا أعرف كيف أنهي ترجمة عواصف الاشتياق التي تجتاحني بكلمات، الآن غادر الرجلان المقهى، والسيدتان تستعدان للمغادرة والنادلة الحسناء ما زالت تعد القهوة للقادمين وما زلت انا اشرب قهوتي واكتب حالماً بأمي وابتسامتها الصباحية.