الكرامة .. ذاكرة الوطن عبر 50 عاماً
د.حسام العتوم
21-03-2018 10:22 AM
يصعب صياغة صورة ذهنية متوازنة ومنصفة لأحداث معركة (الكرامة) الأردنية رمز البطولة التي انطلقت بتاريخ 21 آذار 1968 وتزامنت مع يوم األأم، وتلاحمت مع تاريخ فلسطين ومقاومتها الشجاعة العريقة بالارتكاز على رواية أو مرجع واحد في زمن تعاقب الأجيال المتعلمة والمثقفة والرأي العام المستنير، وفيها كانت قواتنا المسلحة الأردنية الباسلة الجيش العربي إلى جانب المقاومة الفلسطينية المناضلة راصدة ومواجهة للمد الإسرائيلي الاحتلالي عبر حربين سابقتين خاسرتين عامي 1948 و1967، فكان لنا هنا في الأردن وفي الجوار الفلسطيني النصر الأكيد في الكرامة على (أكناف بيت المقدس) من وسط الخندق الأردني الفلسطيني الواحد، ومن صلب الوحدة الوطنية المقدسة التي نسجت خيوطها العشائر الأردنية والفلسطينية بعد نكبة الـ48، وتحديداً عامي 1949 و1950.
ولم أكن أعرف بأن اليهودية ولدت في كتاب (دولة اليهود) لهرتزل والذي تبعه بمؤتمره المشهور عام 1897 لولا اقترابي من صفحة (236) من موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية لمؤلفها الدكتور عبدالوهاب المسيري الصادرة عن دار الشروق، وما جاء به اللواء محمود الناطور في كتابه (معركة الكرامة) والذي سنسرد أجزاء هامة منه هنا شكل لنا كل ما هو معاصر عن (الكرامة)، لكن تاريخ اطماع (إسرائيل) الاحتلالية طويل ارتكز على مخططات صهيونية دفينة بدأت بفلسطين واجتاحت أراضي العرب في سيناء مؤقتاً وجنوب لبنان كذلك، والجولان، وغزة، ثم رست من جديد في تلال ومزارع شبعا اللبنانية ومن ثم خرجت من غزة، ومضت طاردة للمقاومة الفلسطينية وعينها الأخرى على الأردن.
في صفحة (63) من كتاب الناطور (معركة الكرامة) نقرأ (شرعت إسرائيل في تضخيم انفجار لغم بحافلة في جنوب النقب في 18/3/1968، وأعلنت أن الرأي العام فيها يطالب بالرد على هذا الحادث، ولذلك أعلن رئيس الحكومة ليفي إشكول في الكنيست في نفس يوم الحادث (أن الأردن لا يفعل شيئاً ليضع حداً لأعمال الفدائيين التي تنطلق من أراضيه، والأردن مسؤول عن الخرق المستمر لوقف إطلاق النار والنتائج التي يمكن أن تسفر عن ذلك، وسنضطر نحن لحماية أمننا)، انتهى الاقتباس. وتعليقي هنا هو بأنه كان بإمكان (إسرائيل) أن تتفاوض وقتها مع الأردن لكن مخططها الاحتلالي والاستعماري كان ماثلاً لديها، وهو ما أكده للتاريخ بطل وقائد معركة الكرامة الميداني الفريق مشهود حديثة الجازي ابن (معان مدينة ثورة العرب الكبرى المجيدة) في شهادته صفحة (174) من الكتاب أعلاه حيث قال: "هكذا كان قرارهم ضرب الأراضي الأردنية، بل احتلالها لجعلها منطقة أمنية من جهة... ثم السيطرة على الحركة الفدائية ضمن دائرة أقل من جهة أخرى".
وفي صفحة (63) من كتاب الناطور أعلاه (معركة الكرمة) نقرأ أيضاً: "وقد أدرك الأردن أن تسليط إسرائيل الأضواء على هذا الحادث وتقديمها مذكرة احتجاج لدى رئيس مجلس الأمن مؤشر لخطوات أكبر، وتمهيداً لهجوم على الأردن. ولذلك فقط بعث مندوب الأردن الدائم في الأمم المتحدة برسالة إلى رئيس مجلس الأمن (أعلن فيها أن إسرائيل تعد العدة لشن هجوم كبير على الأردن، يمكن أن يؤدي إلى تجدد القتال في الشرق الأوسط "مؤكداً خطورة الوضع وضرورة اتخاذ خطوات لتجنب الهجوم". انتهى الاقتباس. وتعليقي من جديد هنا هو أن الأردن سياسياً واستخبارياً استطاع وبجدارة استشعار الحرب القادمة على أرض الكرامة السمراء كما جباه جنودنا ورجال المقاومة الأشاوس، وأصبحت المعركة وجهاً لوجه بين العجم الغزاة الطامعين من شتات اليهود وابناء صهيون وبين العرب يمثلهم مباشرة الأردنيون والفلسطينيون في خندق واحد، ولم ينفع إسرائيل تقييد عسكرها الجبناء بالسناسل الحديدية ولا بالتمويه عبر تلبيسهم الزي العسكري الأردني خاصة للمظليين منهم، فحسب العميد محمد الروسان فلقد تم تجهيز مجموعات انتحارية من جنودنا الأبطال، وكان للفدائي الفلسطيني المقدام مكاناً هاماً في حرب السلاح الأبيض على الأرض إلى جانب جنودنا الأسود، ولا زلت أذكر بالخير مشاركة والدي المرحوم الرائد مصطفى العتوم بمعركة الكرامة آنذاك، وكيف كان يحدثني بأمر عسكري لم يعد سراً مفاده بأن سلاح المدفعية الذي عمل به كان مجتمعاً يقصف الدبابة الإسرائيلية الواحدة المتقدمة صوب الأردن من فوق الجسور بقصد إدخال الرعب في صفوف العدو.
لقد شكلت (معركة الكرامة) تتويجاً لأهم المعارك الحاسمة ولأكثرها انتصاراً في عهد عظيم الأردن الراحل الملك الحسين طيب الله ثراه، وأسست بعدها للنصر في معركة تشرين / أكتوبر عام 1973 والتي شارك فيها باحتراف واقتدار اللواء المدرع الأردني (أربعون) بقيادة الجنرال خالد هجهوج المجالي، وكما قدم جنود وضباط جيشنا الباسل الشهداء في الكرامة إلى جانب مقاومة أهلنا في فلسطين، كرروا الشهادة في تشرين والنصر الثاني بعد الكرامة الأول، فبقي الأردن الوطن الغالي لنا، وعادت مدينة (القنيطرة) الجولانية للعمق العربي السوري الشقيق وبجهد الجيوش العربية السورية والمصرية والعراقية كذلك، وفي الكرامة قدم جيشنا الأردني العربي الباسل حسب ما ورد في كتاب اللواء الناطور (معركة الكرامة) ص332/333/334 (74) شهيداً بين جندي وضابط، وقدمت المقاومة الفلسطينية بين حركة فتح وقوات التحرير الشعبية (101) شهيداً منهم (74) من فتح، و(27) من قوات التحرير حسب ما ورد أيضاً في كتاب الناطور (ص328/329/330/331). وفي تشرين كان لنا (13) جندياً شهيداً وضابطاً، ونذكر هنا بكل الفخر والاعتزاز أيضاً الدور القتالي المحترف للجنرال أحمد علاء الدين الشيشاني رحمه الله.
و(الكرامة) أيضاً أسست لبناء معاهدة السلام الأردنية الإسرائيلية لاحقاً عام 1994، وهي التي بدورها شكلت سداً قانونياً امام الزحف الاحتلالي الإسرائيلي المتواصل منذ ما قبل نكبة عام 1948، وسواء كنا مع أو ضد المعاهدة برمتها، ورغم عدم رضانا عن سلوك (إسرائيل) سابقاً ولاحقاً وحتى الساعة خاصة فيما يتعلق بمخارج القضية الفلسطينية العادلة والتي في مقدمتها إشكالية القدس الشريف، والمستوطنات، وحق العودة، والتعويض، والحلول النهائية الواجب أن يكون للأردن دور أساسي فيها، وبكل ما له علاقة مباشرة بالوصاية الهاشمية على المقدسات الإسلامية والمسيحية في فلسطين الواجب أن تبقى من أهم الثوابت التاريخية منذ صياغتها على يد شريف العرب وملكهم الحسين بن علي عام 1924، في وقت بلغت فيه قيمة الإعمارات الهاشمية للمقدسات حتى هذا العام 2018 مليار دولار حسب قول مدير دائرة شؤون القدس والأقصى في وزارة الأوقاف الإسلامية عضو اللجنة الوطنية الأردنية للتراث العالمي في اليونسكو المهندس عبدالله العبادي بتاريخ 23/01/2018.
جاك أوكونيل وفيرنون لوب في كتابهما (مستشار الملك، ص70) كتب جاك يوقل: "قال لي ذات مرة، جاك، لقد فقدت نصف بلدي، والقول هنا للملك حسين طيب الله ثراه.. ويسترسل لقد تمت صياغة الوثيقة التي تم إنتاجها خلال هذا الاجتماع لقرار (242)... واعتمدت من قبل مجلس الأمن في (22) تشرين الثاني/نوفمبر من العام 1967، وتدعو إسرائيل إلى إعادة الأراضي التي احتلتها أثناء حرب 1967 مقابل السلام مع جيرانها مصر، والأردن، ولبنان، وسوريا.
وفي كتاب (مهنتي كملك لفريدون صاحب جم، ص211) ذكر قولاً للملك الحسين: "وكان الجميع يتحدثون عن حرب جديدة في حين أنني بين عامي 1968 و1969 لم أتلق سوى نصف التجهيزات التي كنت أنتظرها. انتهى الاقتباس.
وتعليقي هنا على ما ورد أعلاه حول قول الملك الحسين لجاك أعطى مؤشراً ودرساً في (الكرامة) على أن الملك وقتها تمسك بشدة بشرق الأردن بعد ضياع النصف التاريخي غرب النهر، وأصر على عدم التفريط حتى بشبر واحد من تراب الوطن العزيز، وعكس نضال جلالته رحمه الله من أجل إيجاد مخرج سياسي لما تم فقدانه جراء الحرب الخاسرة عام 1967 التي اقترحها الزعيم العربي الراحل جمال عبدالناصر ورفضها وصفي التل.
ومن كتاب مهنتي كملك نفهم بأن قلقاً كان يشكل هاجساً للملك حسين بسبب فقدان التوازن العسكري بين الأردن وإسرائيل وليس لصالحنا بطبيعة الحال، ومع ذلك وقع الفأس بالرأس ودقت ساعة الحرب بما ملكنا من سلاح وإرادة وعزيمة وفداء، وكان النصر الأكيد إلى جانب الحق والشرعية، ونجحنا في تحصين الأردن في الحرب والسلام.
لم يكن مشهور حديثة الجازي رحمه الله سياسياً بل عسكرياً وجنرالاً صلباً ولذلك رفض السلام مع إسرائيل وأصر كما قائده الأعلى الحسين رحمه الله على خروج آخر جندي إسرائيلي من أرض الكرامة، ووقف حسب مقابلة إعلامية مع نجله المحامي عمر ضد معاهدة وادي عربة عام 1994، وكان له رأي آخر في مشروع السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وتمسك الجازي بالخندق الواحد الأردني والفلسطيني ولم يغادره حتى بعد انتهاء معركة الكرامة، ولو قبل بما قبل به وصفي لاستشهد مكانه حسب وجهة نظري، ومع هذا وذاك كان وصفي التل وطنياً وقومياً بطلاً كما الجازي، وانطلق في زمانه في سبعينات القرن الماضي ليدافع عن الأردن واستقراره وفق قراءة مختلفة وبعد الارتكاز على معادلة عشق الأردن وفلسطين معاً.
ولقد ذكر مشهور حديثة الجازي كما رواه لنا اللواء ناطور في كتابه (معركة الكرامة، ص183) أن الكرامة كانت واحدة من معارك العرب الخالدة، بعكس تصورات وأحلام الجنرال المتغطرس موشي ديان وزير الحرب الصهيوني الذي وصل به الغرور كما قيل يومها أنه دعا حوالي ثلاثمائة صحفي ليشربوا معه الشاي في السلط في الساعة الرابعة من بعد ظهر يوم الكرامة لكنهم كانوا قبل ذلك التاريخ قد طلبوا وقف إطلاق النار لأول مرة في حروبهم مع العرب.
كتب جلالة الملك عبدالله الثاني ابن الحسين في كتابه (فرصتنا الأخيرة – السعي نحو السلام في زمن الخطر، ص49/50): ".... تصدى الجيش الأردني، الذي كان لا يزال يلملم جراحه جراء حرب عام 1967، للقوة الإسرائيلية المهاجمة والتحم معها في معركة طاحنة كبّد خلالها المهاجمين ما يكفي من الخسائر بحيث بدأوا – بعد بضع ساعات من القتال – يصرخون مطالبين بوقف لإطلاق النار. رفض والدي أي وقفٍ لإطلاق النار قبل أن ينسحب آخر جندي إسرائيلي من الكرامة. انتهى الاقتباس. وتعليقي المتواصل هنا هو بأن جلالة الملك عبدالله الثاني حفظه الله ورعاه – دائم الزيارة والاهتمام بموقع واقعة الكرامة، ويعطي أولوية قصوى لقواتنا المسلحة الأردنية الباسلة – الجيش العربي ولأجهزتنا الأمنية الجبارة (العيون الحمر) ممثلة بجهاز المخابرات العامة والأخرى ذات الاختصاص المتشابه.
والأمن في الأردن رديف للاقتصاد الوطني، والتنسيق داخله وحوله مستمر، وبأفق بعيد المدى، وعلاقات طيبة ومتوازنة للأردن بقيادة جلالة الملك مع كافة دول العالم، ونجاحات كبيرة أردنية في تطوير منظومة الأمن الوطنية، وانفتاح سياسي أردني على السلام من وسط القضية الفلسطينية الشائكة خاصة بعد شروع الولايات المتحدة الأمريكية بنقل سفارتها إلى القدس الشرقية، وتناقض تصريحاتها الأخيرة بين الاعتراف بأسرلة القدس والإبقاء على فلسطنتها حسب الحق التاريخي والشرعي في ذات الوقت، ودعم أولي للأردن مقداره (6,3) مليار دولار، بينما المطلوب أمريكياً لكي تحافظ على علاقتها الطيبة مع الأردن (الدولة والشعب) الابتعاد عن إحباط قضية فلسطين، وعن التحدث بالوكالة عن الكيان الإسرائيلي الاحتلالي الذي نتعامل معه على شكل دولة انطلاقاً من معاهدة وادي عربة سابقة الذكر هنا، وفي نهاية المطاف لا يصح إلا الصحيح ويجب أن تعود الحقوق الفلسطينية كاملة إلى أصحابها ممثلة بإقامة الدولة الفلسطينية كاملة السيادة وعاصمتها القدس الشرقية، مع بقاء الوصاية الهاشمية على المقدسات في فلسطين ماثلة وحقيقية، والمحافظة على حقوق الأردن في الحلول النهائية، وإيجاد حل ناجح لمسألة نشر المستوطنات اليهودية ليل نهار إسرائيلياً خارج إطار الشرعية الدولية وتناقضاً مع قوانين مجلس الأمن والأمم المتحدة.
ويبقى الموقف الروسي من القضية الفلسطينية العادل هو الميزان في المقابل، وكذلك الأمر بالنسبة لإسناد توجهات الأردن بشكل دائم وفق تنسيق مستمر، واعتراف موسكو العلني بالقدس الشرقية عاصمة لدولة فلسطين أعاد لكل العرب مسلمين ومسيحيين كرامتهم، آملين من الروس ذات الوقت إعادة يهودهم إلى عمقهم لنتفرغ نحن العرب وإياهم بقوة أكبر لصنع السلام.
والأردن اليوم وهكذا كان في الزمن المعاصر القريب ميزاناً للعلاقات الدولية وسط عالم متعدد الأقطاب. وكل عام ووطننا الغالي الأردن ومليكنا المفدى عبدالله الثاني بألف خير بمناسبة ذكرى الكرامة وعيد الأم.