الولاءات العشائرية أو الطائفية أو “المنابتية” هي - في الأصل - جزء من الولاء للدولة - أي دولة - وعليه يفترض ان تندرج في اطار الدولة العام، وان تتماهى فيه، واذا حدث ثمة التباس بينهما أو تعارض فان انتماء المواطن لدولته يتقدم بالضرورة على انتمائه الخاص، أما حين يسود المنطق المعكوس، فتحتاج العلاقة بين المواطن، بخياراته واضطرارته، وبين دولته بقوانينها ومصالحها، الى تحرير واعادة نظر..
مع رسوخ مفهوم “المواطنة” كقيمة وكتطبيق، ومع اشاعة ثقافته في الواقع، واعتماده معيارا عاما لتحديد وضبط علاقة الانسان مع الدولة التي يقيم فيها، أو ينتمي اليها، يمكن ببساطة أن نتحرر من اشكالية “تعدد” الاعتبارات والانتماءات، ودفعها الى التكامل بدل التباين، والى فهم الاولويات المفترضة بدل تجاوزها واختراقها، والى الانتصار للقانون الناظم للعلاقات بدل الالتفاف عليه أو ابتداع ما يلزم لاختراقه.
في غياب قدرة الحكومة على اقناع الناس بمقرراتها واجراءاتها، وتعقيدها في اعلاء شأن “القانون” كحكم واداة لرفع ومد موازين العدالة، واعتمادها “لمساطر” مختلفة في تحديد الاولويات، وفتح الملفات، ومعالجة القضايا المختلفة، يصبح من السهل فهم عودة الناس الى “الأطر” التقليدية التي يجدون فيها حلولا لمشكلاتهم، ومهادا أمينا للاحتماء من أخطائهم، وقوة كافية للدفاع عنهم، أو الانتصار لهم ان واجهتهم مشكلة، كما يصبح من الصعب على الدولة ان تفصل بين الاعتبارات العامة والشخصية، أو ان تتجاوز الخاص الى العام، فهو حتى وان كانت المسألة قانونية محضة ولا علاقة لها بالسياسة.
في اطار هذا الاختلال العام في الفهم والتطبيق معا، سواء لقضية المواطنة، أو لمسائل مثل المحاسبة والمساءلة، أو لقيم مثل المساواة والعدالة، أو لملفات مثل: الفساد وتوزيع مكتسبات التنمية، يبدو من الصعب التخمين على ردود فعل المواطن أو فهم اتجاهات المزاج العام، خذ مثلا قضية مثل: محاسبة من يتورط في التعدي على المال العام، المفترض - بالطبع - ان تثير مثل هذه القضايا ارتياحا عاما لدى الناس، باعتبارهم الطرف المعني بها، والاكثر الحاحا على الحكومات المختلفة بفتح ملفاتها، ومحاكمة اصحابها، لكن قد يحدث العكس، ويخرج من يطالب بطي الصفحة، وعندها يمكن ان نقدر معنى هذا الاختلال، وان نحدد أسبابه.. سواء كان المجتمع ضحية لانطباعات وتأثيرات معينة، أو كانت المقررات غير مقنعة بما يكفي، أو غير مكتملة أو يشوبها خلل هنا أو هناك.
أعتقد - في ظل السجالات الساخنة التي نتابعها حول قضية الاشتباكات على هامش الاديان تارة او الاعتصامات تارة اخرى، وما افرزته من نقاشات حول المواطنة تحديدا - وما يجري على تخومها من مقررات هنا أو اجراءات هناك، وسواء تعلقت بملفات معينة، أو بقضايا ورؤى عامة، اننا بحاجة الى فك كثير من الالتباسات التي أعادتنا الى البحث عن “أطرنا” وروابطنا الخاصة، والاحتماء بمظلات غير وافية وغير مفهومة، فيما الاصل ان نتوحد في مفهوم واحد، واطار واحد، مهما اختلفنا واجتهدنا، وهو اطار “المواطنة” الصالحة، والدولة الناظمة، والقانون الذي يسود على الجميع ويحميهم.. ولو حصل ذلك لتجاوزنا - بسهولة - هذا الجدل الذي أشغلنا كثيرا عن التحديات الكبرى التي تواجهنا، وعن الخطر الذي يستهدفنا، وعن القضايا الأهم التي يعاني منها مجتمعنا وهو يتطلع للخروج من أزماته المختلفة.
الدستور