ابني الحبيب،
أعلمُ أنّك تبحثُ عن هديّةٍ لي هذه الأيّام، في مناسبة ما يُسمّى بعيد الأم، تُطلقُ العنانَ لخيالك...فتأتيني بما يبهجُ حياتي في كلِّ مرَّة، وهنا سأبدأ باعترافي لأقول:
هذا الخيالُ الخلاّقُ نفسُه كنتُ قد عاقبتُك عليه ذات زمن، حين أبلغتني معلّمتُك أنّك تسردُ قصصاً غير واقعيّة أمامها، فاتّهمتَك بالكذب... فقدتُ أعصابي يومها إلى درجة أن استعنتُ بمعلّمة الدّين الصّارمة لتحدِّثك عن النّار وعن غضبِ االله وعن جهنّم... كنتُ أرقبُ رعبَك لليالٍ طوال دون أن أبادرَ لتهدئةِ روعك، وذلك حتى تتأدّب
لم أكن أعرفُ حينها أنّك كنت تمرُّ بمرحلةِ التّخيّل والخلطِ بين الواقعِ والحقيقة، مرحلةٍ يمرُّ بها كلُّ طفلٍ، خاصّةً الأذكياءَ منهم ، ولم أكن لأقتربَ منك لأهمسَ إنَّ االلهَ لا يغضبُ من الأطفال... بل يحبُّهم كثيراً
وأذكرُ أنَّ رسوماتِك كانت تستفزُّ معلّمة َالفنّ كذلك، تلك التي صاحت بك ذاتَ يوم قائلةً إنَّ لا وجودَ لشجرٍ أزرق... وقد ساعدتُها في ردعك، ولم أسمح لك بتلوينها إلا بالأخضر... لأعرفَ فيما بعد أنَّ عقلكَ الذّكيّ المُحلّق كان قد قرّرَ التمرّد على المسلّمات، وأنَّ ليس لنا أن نتدخّلَ في الطّريقة التي يرى فيها صغارُنا الأشياء، بل نصمتُ أمام عبقريّةٍ فذّة اسمُها « رسومات الأطفال «
وضربتك في مناسبةٍ ما لمّا أردت الاستئثارَ بلعبتك، ولم ترضَ إعارتَها لابنِ إحدى القريبات، اتهمتُك بالأنانية يومها دون أن أعلمَ أنَّ الشّعورَ بالفردّية، وبنزعةِ التّملّك أمرٌ طبيعيّ في عمرٍ معيّن...
وكبرتَ، ودخلتَ مرحلة اليفاعة، فتصدّى والدُك لأمورِ الضّبط والرّبط في شخصيّتك، وكثيراً ما عاقبك بكلامٍ قاسٍ، وأحياناً بالعقاب البدني... أذكرُ أنّي اعترضتُ ذات مرّة، فأكدَّ لي أنَّ الضّربَ يؤدّبُ ويُربّي... وأنّه نشأ على هذا الأسلوبِ النّاجحِ الفعّال... وها هو رجلٌ كاملٌ متكامل، حسب تعبيره، لكن أنا الوحيدة التي أدركتُ لاحقاً أنّه لم يكن يوماً بالسّوّية النّفسيّة التي يدّعيها... وأحتفظُ بالتّفاصيلِ لنفسي
أمّا أنا، فكلّما كنتَ تتمرّدُ على رغبةٍ من رغباتي، أسارعُ فأذكّرك بتضحياتي وسهري وتعبي، وكم تحمّلتُ لأجلك، وكم قاسيتُ وعانيت... فكنتَ ترضخُ وتذعنُ لما أريد كيف كنتُ أردّدُ ذلك الكلامَ الغبيّ الأرعن ؟ كيف كنتُ أسمعك ذلك الهُراء بدل أن أشكرَك على وجودِك في حياتي، ذلك الوجود الذي علّمني كيف أضّحي، وكيف أحبُّ، وكيف أعطي بشغف، وأستمتعُ بنكران الذّات، وأعيشُ سحرَ الأمومة...
أيّها الحبيب، لماذا اعترفُ لك بذلك كلّه الآن؟ إليك الأسباب:
حين أنجبتُك، كان همّي تحقيقَ انتصارٍ ما على بعض القريبات الثّرثارات... كنتُ فخورةً انّي أنجبتُ أوّل ذكرٍ يخلّدُ اسم العائلة... ثمَّ انشغلتُ بعدها بقراءة كلِّ ما يتعلّقُ باستعادةِ رشاقتي بعد الولادة... ذلك ما دفعني للتثقّف بدلَ أن اطّلعَ على كتبِ التّربية والطفولة للعناية بمخلوقٍ رائعٍ مثلك... إلهي كم كنتُ سخيفة أمّا والدُك، فكنتَ له العِزوةَ والسّند، والعكّازَ في شيخوخته لاحقاً... يعني باختصار كنت وسيلةً لنا ولم تكن غاية... لم ندرك ماذا يعني أن يهديَنا االلهُ طفلاً مثلك، ففي حين لم يكن وضعناُ المادّي بالمريح، أنجبنا المزيدَ من الأولاد، حتى أنَّ مجيءشقيقتك الصّغرى كان وليدَ قرارٍ عابر، وذلك حين أحسسَنا بالملل بعد أن كبرتم، فشئنا التّلهي بطفلٍ جديد... ألم أقل لك أنّكم وسائل، ولستم غاية
ايّها الغالي،
كنت الابنَ الأكبرالذي تحمّلَ معنا ضيقَ العيش، فأذقناك طعم َالحرمان، وغيابَ شروط ِالحياة اللائقة بسبب أنانيّتا وجهلنا وتقصيرنا بحقّك، وبحقِّ إخوتك فيما بعد، أعترفُ أن النّدمَ يقتلني رغم أنّكم حياتي، والهواء الذي أتنفّسُه... نعم، أندمُ لأنَّ الحبَّ وحدَه لا يكفي لشؤون التّربيّة ومسؤوليّاتها، هذا إذا افترضنا أنّنا نتقنُ فنونَ التّعبيرِ عن حبّنا لكم
سامحني يا ابني، فأنا التي يُفترضُ بها أن تُهديكَ كلَّ لحظة ما يبهجُ حياتَك... لا أنتَ
الرأي