( وترى الارض هامدة فاذا أنزلنا عليها الماء أهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج ) – سورة الحج - صدق الله العظيم .
كلما مرت بخاطري هذه الاية الكريمة من كتاب الله تحضرني مقارنة مدهشة بين الماء المنزل على الارض وبين الافكار العظيمة التي يطلقها مفكرون وعلماء في حياتنا الهامدة كأنما يريدون أيقاظ ضمير غائب أو عقل يغط في سبات أو يردون ذاكرة مثقوبة أو يغسلون قلوبا ران عليها .
ان الافكار العظيمة ان تلقتها أرض طيبة منا فانها تنبت في حياتنا خيرا كثيرا , وان تلقتها كثبان الرمال التائهة في متاع الغرور أبتلعتها غورا , فلا زرعا أنبتت ولا ظامئا أروت .
قبل سبعة عشر عاما أطلق سمو الامير الحسن بن طلال فكرة أنشاء ( المؤسسة العالمية للزكاة والتكافل ) على مستوى العالم الاسلامي , وما أنفك سموه بين وقت وأخر يردد الفكرة في أكثر من ندوة ومؤتمر , وفي العام 2007 دعا رئيس الوزراء الماليزي عبد الله بدوي ( العالم الاسلامي لأيجاد صندوق للزكاة والوقف العالمي لأجل مصلحة الامة الاسلامية في جميع أنحاء العالم ) وذلك بعد أن أسست ماليزيا صندوقا للزكاة والوقف في دول جنوب شرق أسيا , ما تزال مسيرته شبه متعثرة لتفاوت تجاوب الحكومات ومساهمات الشعوب .
وقبل ذلك وأثر الدعوة التي وجهها سموه بادرت أكثر من دولة الى تأسيس صندوق محلي للزكاة , ولعل تأسيس صندوق الزكاة الاردني بقانون صدر عام 1988 كان بتوجيه ورعاية من سمو الامير الحسن , غير أن نظرة عاجلة الى هذا الصندوق ستكشف لنا كم هو جهد متواضع بعد مرور عشرين عاما على تأسيسه اذ بلغت حصيلة الزكاة المقدمة من المكلفين الى الصندوق في العام 2008 فقط 2,5 مليون دينار , واذا علمنا أن في الاردن أكثر من مائة ميسور يمتلك كل منهم ماية مليون دينار نقدا , فان زكاة واحد منهم تبلغ 2,5 مليون دينار أي بما يوازي حصلية الصندوق كاملة للعام الماضي , بمعنى أن الزكاة المستحقة شرعا على مائة مكلف أردني تبلغ 250 مليون دينار , وهو مبلغ يفوق ما يرصد سنويا في موازنة الدولة لصناديق العون الاجتماعي وموازنة وزارة التنمية الاجتماعية وما يسمى بشبكة الامان الاجتماعي وصندوق التنمية والتشغيل مجتمعة .
تلك هي صورة مختصرة لحال صندوق الزكاة في الاردن ولا أظن غيره في دول أخرى أحسن حالا .
ان التمعن في سبب هذا الضعف الذي يعتري مؤسسة الزكاة في العالم الاسلامي يصل بنا الى القول أن أحد أهم الاسباب عدم ثقة الراغبين بدفع الزكاة بالمؤسسة الحكومية القائمة على الزكاة , وفي الاردن على سبيل المثال ورغم أن القانون منح صندوق الزكاة الشخصية الاعتبارية الا أنه ربط الصندوق مباشرة بوزير ووزارة الاوقاف , فلم يتمكن الصندوق من جمع أكثر من ذلك المبلغ المتواضع وليس كله زكاة بالطبع فموارد الصندوق تشمل الهبات والنذور والتبرعات والاضاحي بالاضافة الى الزكاة .
ان هناك من يعتقد أن بعض الاحزاب والحركات الاسلامية تجمع من أموال الزكاة أضعاف ما تجمعه المؤسسات الرسمية , والامر هنا لايحتاج الى تفسير .
وثاني أهم الاسباب في ضعف مؤسسة الزكاة أن كل الدول الاسلامية أسقطت الفريضة الواجبة التي قاتل عليها الخليفة الاول أبو بكر الصديق المرتدين وجعلتها فريضة أختيارية , ولكي تحول الحكومات بين المواطن وبين الزكاة أثقلت كاهله بالضرائب وتفننت في أبتكار أنواعها حتى لم تترك له مجالا للتفكير بأخراج زكاة بل وجعلته ينسى أن هناك فريضة زكاة واجبة .
وقد يقول قائل أن الحكومة تأخذ منا وسواء كان المسمى زكاة أو ضريبة فهو سيان , فنقول ان الفرق كبير وقد فصله الفقهاء , وقد يكون معنى التكافل الانساني الاجتماعي في الزكاة هو الذي يزكي ويطهر النفس البشرية وهو أمر مفتقد في الضريبة التي يتفنن الافراد والمؤسسات في الاحتيال عليها .
قال تعالي في كتابه العزيز ( خذ من اموالهم صدقة تطهرهم و تزكيهم بها وصل عليهم ان صلاتك سكن لهم والله سميع عليم( (103) التوبة - , وفعل الامر في ( خذ ) يعني التشريع الواجب التنفيذ .
ومن هنا وازاء غياب التشريع الاسلامي الذي يجمع الزكاة بفرض الرحمن وسلطة السلطان , وازاء ضعف الثقة بالمؤسسات الحكومية القائمة على صناديق الزكاة , فان دعوة سمو الامير الحسن لأنشاء مؤسسة أسلامية عالمية للزكاة ينبغي أن تأخذ حيزا واسعا من التفكير والدراسة وآليات للتنفيذ خارج المؤسسات الحكومية للدول .
ان أهمية أن تتبنى الاحزاب والحركات الاسلامية مثل الاخوان المسلمين وحزب العدالة والتنمية التركي وحزب العدالة المغربي ,ومثيلاتها من الحركات والاحزاب الاسلامية وجمعية علماء المسلمين التي يترأسها الشيخ يوسف القرضاوي , فكرة سمو الامير الحسن , فيبادر الاخوان المسلمون الى الدعوة الى مؤتمر مخصص لدراسة هذه الفكرة فقط , تكون من نتيجته الاعلان عن تأسيس المؤسسة العالمية المستقلة للزكاة والتكافل يقودها مجموعة من العلماء والشخصيات المشهود لهم بالخير والاعتدال برئاسة سمو الامير الحسن بن طلال , كفيل بأن يدفع عشرات الالوف من كبار الاثرياء المسلمين في مشارق الارض ومغاربها الى توريد زكاة أموالهم اليها , ويقينا ستتجاوز حصليتها السنوية ملياري دولار في السنوات الاولى والله يبارك في الخير والقائمين عليه .
ان قوة أي فكرة كبيرة ليس في عالميتها وأنسانيتها فقط وانما أيضا في وجود من يلتقطونها ويسعون الى بلورتها وولادتها على أرض الواقع فبها يكبرون وبهم تنمو بذرة الخير وتنمو حسناتهم في الميزان .
قال تعالى ( فاما الزبد فيذهب جفاء واما ما ينفع الناس فيمكث في الارض كذلك يضرب الله الامثال ()– الرعد – صدق الله العظيم .