ما أصعب أن تشعر بالألم فترى كل من حولك عـدم، ويسودك إحساس الندم على إثــم لا تعرفه وذنب لم تقترفه وخيبة وراء أخرى.
ينصحني صديقي وقد وصل الى معترك المنايا، وأخذت منه السنون مأخذها والتجارب أعتاها... يقول: دعك ممّا سقط على الأرض فقد صار جزءاً منها وإذا كان الأمس ضاع فبين يديك اليوم، تعلّم كيف تتجاهل كُل شيء، وكيف تَقِف وحيداً دون مساعدة أحد، تعّلم ألّا تعيشَ على الانتظار، ولا تكُن هامِشاً، لا تضع كل أحلامك في شخص واحد...ولا تجعل رحلة عمرك وجهة شخص تحبه مهما كانت صفاته! ولا تعتقد أن نهاية الأشياء هي نهاية العالم! فليس الكون هو ما ترى عيناك، لا تكن مثل مالك الحزين هذا الطائر العجيب الّذي يغنّي أجمل ألحانه وهو ينزف!
لم أكن أهوى أن تكون هذه السطور مهجعي في قيامي وسكوني، ولكن أجبرني قلبي أن أكتب، أن أفكر، أن أتألم، ويجبرني التألم أن أنزف كلمات هي سلواي وألحاني، أعبّر فيها عن رعشة ألم خفية أخبئها عن الآخرين حتى لا يلمسوا حجم صرخات الكلمات المذبوحة بسيف صدئ، وكما يقولون: تولد الكتابة من رحم الوجع.
بكينا الجُرحَ ونُكرانَ الجميل، بكينا القيمَ والمبادئ، بكينا العقوقَ والجحود، لكننا لم نَبكِ الألم، نعم لا يجب علينا أن نخجل عندما نبكي ونذرف الدموع، كما علينا ألا نقدم أي اعتذار عند البكاء، لأنه من غير هذه العاطفة فإنّنا عبارة عن إنسان لا يمتلك أية مشاعر، البكاء مطفأة يجعل الحزن أقلّ تأثيراً عند الأشخاص فكما قيل: العين التي لا تبكي لا تبصر في الواقع شيئاً.
كن عاقلاً أيها الألم. لا تكن مِبراةً لقلبي النزف فلقد اشترى اللص شهادة ومثّل دور المعلم، ولقد لَبسَ الشيخُ عباءةَ الكذب والنفاق، انه يستحق جائزة نوبل لروعة أكاذيبه، ولقّن أبناءَه الدرسَ القديم، واستفزّ من استطاع منهم بخيله ورجله، كما إبليس تماماً، ودلّهم بغرور على شجرةٍ ماتت أصولُها من زمن طويل. فلمّا ذاقوا طعم هذه الشجرة بدت لهم سوءاتهم فبدَت ظاهرة للعيان ولم يشعروا بأخطائهم البتّة فقد سرقوا قلباً، وأحرقوا عمراً، وزرعوا خيبة ومضوا دون أن يرفّ لهم جفن!
كن عاقلاً أيها الألم، لا تكن عميقاً، فأنا ما زلتُ أعلّلُ النفس بالآمال، وفعلتُ المستحيل. عهدي بكَ أيها الألم أنك تطهِّر كلّ شيء، ومولِّدٌ للأفكار....
حُلم يعانقني أن أطِير معَ الطِيور الراحلة، وأهاجِر إلى عالم لا أنين فيه ولا حَنين، أريد أن يبِقى الجِميع غُرباء، كي لا أشعر بخيبتهم، فلقد أصبح القِرب مُوجع والانتظار مؤلم والسفر الى الصحراء بات ضرورة للبحث عن أشجار وارفة الظلال تحتويني بظلها وتسعدني بثمارها فأنا اشتهي مدينة مهجورة هادئة أسكن بها أنا وما تبقي من نبضي.