عندما تراودني الكتابة في مثل هذه المناسبة ، اشعر كثيرا بالتردد والتلعثم ، وتعتريني حالة من الانكفاء ، ليس جفاءا او تقصيرا، بل يقينا بقلة حيلتي في ايفاء هذا الموضوع حقه ، وايصال معناه الذي اريده واتمناه ، فمهما كتبت ومهما اسعفتني اللغة في تزيين مطارفها او تلوين اطيافها ، فلن اعطي مثل هذا الموضوع حقه وقدره ، فاللغة مهما اتسعت مداركها وفلواتها ، لن تستطيع ان تترجم شعورا يغدق في متاهات المحبة التي لايماثلها شيء في الوجود ، حيث تقف كل مقامات الشعر ولواعج النفس ، عاجزة عن اختراق احساس يهيم في غياهب اللاشعور لينغرس في قاع النفس البشرية ، لايدانيه وصف او تقدير ، واكاد اجزم ان كل مايكتب في هذا الموضوع ما هو الا تفسير عاجز عن وصف مكامن تلك المشاعر والاحاسيس ، تلك التي لا تساويها اي مشاعر او احاسيس اخرى مما فطرت عليها مكامن النفس البشرية .
فمنذ فقدت الحضن المفعم بالحنايا بين ضلوع والدتي ، وغادرتني مراتع الحب الاول الذي لا تبارحني تجلياته ، فقد افتقرت لكل احساس حقيقي بقيمة الحياة ، واصبحت الاحداث بالنسبة لي كلٌ جامع ، ليس بينها فروق او مسافات اوحتى تباينات ، لان صورة امي ليس فيها ، ولان تبيان امي لم يخالطها ، فاصبحت الاشياء لا قيمة لها سوى انها اشياء ، وغدت الحوادث لا وقع لها سوى انها حوادث تمر كل يوم ، وتتبادل الازمنة والمواقع لا حراك فيها ولا روح .
لقد كانت امي اول كتاب قرأته عيناي حين تفتحت على مناسك الحياه ، وكان حضنها اول مرتع تتدافع فيه براءاتي الحيرى ، فتركن اليه بسكون مهيب تختلجه المناغاة والتناغي فاشعر انني اتماهى في غياهب العالم الدافئء فاركن اليه دون وجل اوخجل .
ومع ترعرع جوارحي الغضة ،يوما بعد يوم ، وتدافق اعتلاجات الوفاء المضمخ بالحبور ، كانت تجتاحني مع كل تنهيدة اوكلمة او حركة ، ترانيم محبة ، وايات غبطة وسرور . لايمكن للغة مهما تفتقت عن الابداع ان ترسم تلاوين تلك الصورة او تسبر مكامن تلك اللحظات .
انها الام انها المعنى المُخلد للحياة ، منها انبثقنا وانبثقت معنا الروح المفعمة بسر البذل والتضحية ، انها الاساس الذي تنشأ من بعده الاشياء ، فتتقزم امامه كل معاني الايثار والتواصل والتفاني، وتتلاشى امامه كل استحقاقات الوجود ، انها الام اعظم مواسم الخلود واطهر منابع الخير والعطاء ، انها الام ....!!! فاي عيد ذلك الذي يوفي حضن امي الحنون حقها واي عيد ذلك الذي يناظر بكفيه كف امي حين تمسح على راسي برقة لا توزيها رقة وطيب مفعم بمعاني الالفة ، اي عيد ذلك الذي يمكن ان يعوضني عن شهد امي الذي يقطر من بين ثناياها ، فيلامس شغاف قلبي وينساب بحنوه بين رقائق الفؤاد .
اعتقد انني محق حين اجزم بانه ليس هناك معنى بعد معنى الامومة وليس هناك مكانة لوصف او شعور او احساس يمكن ان يقع هذا الموقع من النفس . فاعذروني اذا انا قصرت في رسم احاسيسي وتحديد ملامح محبتي ومكنونات وخلجات نفسي .