ذات نهارٍ ولد من ضلع نيسان، وُلِدتُ أنا، في عٓمّان وفِي المدينة الطبية على وجه التحديد. في السبعينات، حيث كانت الحياة تبدو أكثر بساطة مما هي عليه الآن. وعلى الرغم من بساطتها إلا أنها كانت مليئة بالقسوة. ومن قسوتها، أن يكون ذلك المكان الذي أبصرت فيه النور، هو نفس المكان الذي مات فيه والد صديقتي!
لو عرفت حينها أنني سأمتلك عندما أكبر أسماء عدة، غير اسمي الذي أهداني إياه والدي، لما أضعت ما فات من عمري بعد انقضاء مرحلة الطفولة، باعتبار نفسي شخصا آخر مهمته إرضاء الآخرين. فلو كانت هناك بطاقة للأسماء الشخصية تعطى للمرء بعد تخرجه من تلك المرحلة، لكان من عديد أسمائي فيها: (حساسة أكثر مما ينبغي، عاطفية حد التطرّف، تكره في عمان مطارها، لاعتقادها أن تلك البقعة من المدينة ممسوسة بلعنة البكاء، فاقدة الإرادة، زنانة، عنيدة، على قدر يسير من الجنون، لا تحب العتب والإنتقاد، رأس أدمن المسكنات، ولسان أدمن كثرة الكلام (مع من تحب تحديدا)، لديها قصر بصر، لكنها ليست سيئة على صعيد البصيرة، قلب على الرغم من كونه شاسعا، بيد أنه سيحال إلى التقاعد المبكر قريبا، معدة مهترئة،، إلخ...).
وفِي أسفل البطاقة يمكن تصور بعض الملاحظات والتي تم استخلاصها من تلك الفترة من العمر. مثلا: (الحب؛ سيد المجد والألم، وهو عزف ومقام، فيه ما فيه، فعقل ملحد، وقلب يصلي، ورعشة حنين! وأكذب المثل؛ "البعيد عن العين بعيد عن القلب". وأقسى المديح؛ "أنت رائع؛ بيد أن صدر الدنيا بك ضاق". وأخفض الرد؛ "لا عليك؛ عِش طيبا ودم هانئا". وأصفى القلوب؛ ما كان آخرها في المحبة أولها. والعشاق؛ للشمس والقمر انعكاس، وأجمل النصوص ما كتب من نسغ الروح. وانحباس المطر ليس أمرا مقلقا، المقلق حقا أن يهطل المطر دون وعد بلقاء! ونزق الأمنية، بأن نحيا مع من نحب إلى الأبد، تلاشى، عندما ماتت "ستّي"! حينها فقط، ماتت تلك الأمنية، وذبلت معها أحلام، وأشياء كثيرة)!
أما الآن، وقد حلّت علي حكمة قمة هرم العمر، أو ربما كانت حكمة دنو الأجل في آخر منقلب منه. من يدري! فقد أدركت ولا أظنني متأخرة، بأن ما قد نشعر به من ضيق الصدور، ما هو إلا ظمأ أرواحنا لأننا لم نعد أطفالاً، وأن الحياة، مهما كان زيفها متقنا فلا بد أن فيها قدرا -ولو كان يسيرا- حقيقياً. وذكريات وأغان تمنحنا ما يكفي من المواساة لمواصلة العيش!