ولأن التاريخ يعيد نفسه، فقد تداول ناشطون قبل أيام مقابلة قديمة أمام مؤسسة الضمان الاجتماعي لحاج لم يستطع أن يحبس دموعه وهو يتحدّث عن سبب وقوفه معتصماً أمام مبنى المؤسسة آنذاك قال: « أبنائي درسّتهم ع حسابي ،الآن بيتي معروض للبيع في المزاد العلني وسببه تدريس أولادي» ثم خنقته العبرة واختنق صوته ولم يستطع إكمال حديثه..بكى الرجل،ما أصعب أن تبكي الرجال عندما تفقد حيلتها...حاول استحضار شجاعته وصلابته التي صانها طوال سبعين سنة و قال: درّست أربعة طلاب والآن بدهم يستملكوا داري،شخصياً بحاجة إلى عملية لصدري ولا استطيع القيام بها..مشيراً بصوته المخنوق إلى ضعف الراتب التقاعدي الذي يتقاضاه متقاعدو الضمان..
بكى الرجل ، بكى الأب قهراً وعجزاً وهو الذي حمل رسالة الأبوة ببسالة رغم فقره ، فرهن الدار ليكمل الأولاد تعليمهم الجامعي ،وعندما غرقوا في دوّامة البطالة كما كل الشباب الأردني ،استحق للبنك أقساطه فعجز عن الدفع فأعلنت للبيع في المزاد...لا ألوم دموع الحج عايد العمايرة التي غلبته في ذلك الزمن ولا أظن ان مشكلته حلت كما لم تحل مشاكل غيره من الأردنيين،وأظنه عندما بكى أمام الكاميرا فقط لأنه تخيّل سكّاناً جدد ايحتّلون تفاصيل الدار، فحرم من شجر الزيتون والدالية والحوش وشبابيكها التي تخبىء دمع الشتاء ،وتعاليل الصيف و تضاريسها التي يألفها كما يألف تقاسيم أبنائه..
بكى الرجل وهو بكامل أبوته وأردنيته و رجولته ، رباه كم هي قاسية دمعة الأب عندما يخونه العمر ،ويضعف الجسد وتقل الحيلة ، كم هي موجعة وحارة دمعة الأب عندما تعانده الأحلام وتبخل عليه الكرامة..الحج عايد واحد من آباء كثر ،قدّموا ما قدّمه هذا الفارس النبيل ، ضحّوا بأملاكهم ، بأرضهم ، بمركباتهم ليعوّضوا ما فاتهم من علمٍ في مستقبل أولادهم ، يريدون أن يروا أنفسهم بنجاحات أبنائهم ، دفعوا الغالي والنفيس ليحصل الأبناء على أفضل الشهادات..ولأنهم ليسوا من «نسب الطبقة السياسية» ولا من «نسل المتنفذين» وتجار المواقف الوطنية تخاطف أبناء الذوات حصصهم ومقاعدهم وفرصهم في التوظيف وتركوهم يعدّون ما فات من أعمارهم على سلم ديوان الخدمة المدنية..
قاسية وموجعة ومؤلمة وحادّة دموع الحج عايد..تكوي في وجداننا لوماً صامتاً كآخر كلامه..لن أزيد أكثر ، فالمشهد كان موجعاً لكنني أستطيع أن أقول: عندما يبكي الآباء..يبكى الوطن!..
الرأي