في يوم واحد غادرنا فالحان. الإثنان عراقيّان، مثقّفان، متشابهان في الاسم، متشابهان في التجربة.
صباح ذاك اليوم، توفي فالح عبد الرحمن. في مسائه، توفي فالح عبد الجبّار.
الإثنان باشرا إطلالتهما على الحياة العامّة ماركسيّين. اندفعا نحو بيروت: أوّلهما للدراسة، إبّان فورة «اليسار الجديد» أواسط الستينات. بعد ذاك لم يعد إلى العراق. ثانيهما جاء فراراً من صدّام حسين، أواخر السبعينات. كان واحداً من قافلة عريضة من المثقّفين العراقيّين الذين غادروا «جمهوريّة الخوف» الصدّاميّة مع انهيار «الجبهة الوطنيّة» المزغولة التي ضمّت الشيوعيّين. هو أيضاً لم يعد، إلاّ في زيارات متقطّعة، بعد سقوط صدّام. الإثنان انجذبا إلى المقاومة الفلسطينيّة وتنظيماتها والأفكار التي دارت في فلكها. عرفا الغرب، لا سيّما بريطانيا. أغراهما ذاك الغرب بقدر من الليبراليّة ليس من شيم ما عرفاه قبلاً.
فالح عبد الرحمن ابن وزير عراقيّ سابق. درس في الجامعة الأميركيّة. كتب الشعر، ثمّ أنجز في جامعة كامبريدج أطروحته عن المعرفة عند نيتشه.
تعرّفتُ في أوائل السبعينات بفالح عبد الرحمن، فحضّني، هو الذي يكبرني بعشر سنوات، على أن أقرأ بعض المراجع الماركسيّة، لا سيّما العزيز على قلبه، لويس ألثوسير. فالح لم يكن شيوعيّاً سوفياتيّاً. كان أقرب إلى ماويّة عبرت إلى فرنسا، ومن ثمّ بقية أوروبا، عبر نفور من السوفيات استساغه القوميّون على أنواعهم. هؤلاء إذ انتسبوا إلى الماركسيّة، لأنّهم وجدوها أكثر فعاليّة في حسم الصراعات القوميّة، أثقلوا عليها بما حملوه من القوميّة. حتّى القليل الأوروبيّ الذي في روسيا بدا لهم متخماً بالخطيئة الاستعماريّة.
وفالح كتب الشعر وترجمه وأولع بالأسطورة و «ولادتها»، ما منحه شرفة أعرض يطلّ منها على الفنون والموسيقى.
فالح عبد الجبّار كان شيوعيّاً. ترجم «رأس المال» إلى العربيّة. شاغلاه اللذان دارت حولهما كتبه وكتاباته كانا الاجتماع القرابيّ في العراق والمشرق العربيّ، والماركسيّة وما بعدها. هذان الشاغلان حضرا أيضاً في عشرات المقالات التي كتبها لملحق «تيّارات» في هذه الجريدة.
فالح عبد الرحمن عمل أيضاً في مكتب «الحياة» في لندن. نادراً ما كتب، لكنّه حرّر قليلاً وترجم كثيراً. وعلى هذا النحو استمرّ إلى أن بُترت رجله بسبب التهاب تأخّر في علاجه.
عمر متقارب. تجربتان متقاربتان. والأهمّ أنّ الإثنين عراقيّان تحبّ البلدان أن يكون أبناؤها مثلهما. لكنّ عراقهما هو الذي ابتعد عنهما. أمّا هما وإن حُملا على الابتعاد بالجسد، فإنّهما كانا يزدادان اقتراباً في المنافي. وهذه صياغة لمعاناة المنفيّين: مع مرور الزمن، يبتعد الوطن أكثر، والمنفيّون يقتربون منه أكثر.
فالح عبد الرحمن قضى في لندن. فالح عبد الجبّار في بيروت. «إن كان هذا كلّ ما يبقى فأين هو العزاء؟».
الحياة اللندنية