لطالما استُخدِمَتْ كلمة «نمرود» على مسامعنا منذ الطفولة، ليتم تقديمه لنا على أنه شخصية جبارة وظالمة، مروجين لهذا الاسم من بين ظلال الأسماء الطاغية، لكنه مع الوقت بدا لنا على أنه شخصية خيالية ميثولوجية، ورغم تأكيد العارفين أنه شخص واقعي ذُكر في «التوراة»، لكنه استقر في الأذهان الشعبية بذات الصفة المستبدة والشرسة، وها نحن اليوم نعيد ذاكرته، لكن هذه المرة من ذاكرة المؤرخين مع الدلالات المادية، وبمن طابقوا النمرود؟
نمرود في تركيا
في القرن التاسع عشر الميلادي تم اكتشاف آثار في جبل النمرود في مدينة «كاهتا» التركية، وهي المخصصة للأكراد، والواقعة في «أديامان» وهي محافظة من محافظات تركيا، حيث كان الرسام عثمان حمدي بيك، وهو أول آثاري عثماني تركي يبدع في الحفريات، يكتشف مع فريقه آثار منطقة النمرود ومن فوق جبال تلك المدينة، لتصبح منذ اكتشافها أعلى آثار في العالم من تلك القمة.
لكن كانت معظم التماثيل مقطوعة الرأس، وهو فعل متعمد لا بسبب الزلازل أو عوامل التعرية، لكن رغم ضخامة التماثيل التي يتراوح طولها بين الثمانية والتسعة أمتار، إلا أنها جميعها لا تبدو سوى من حضارات أخرى، كالأسود والنسور التي تعود إلى الحضارة اليونانية والأرمنية، إضافة إلى تمثال لزيوس وآخر مرتبط بإله الزرادشت «مازدا» وهناك تمثال إله أبولو وغيره، وقد تمت إزالة معظم الرؤوس والإضرار بالهياكل المنحوتة.. لتبدو لنا الملامح في معظمها يونانية والملابس المنحوتة فضفاضة كالأرمن وكذلك طريقة ترتيب الشعر أرمينية، ذهاباً إلى بعض الأشكال التي تبدو في أغطيتها فارسية الهوية، ونحن نتساءل أمام كل ذلك، أين شخصية النمرود إذن أمام تلك الآثار التي تعتبر حديثة عن عهده وزمنه؟ ونتعجب لأننا نعلم بأن النمرود لم يكن إغريقياً أو أرمينياً أو فارسياً كما يؤكد المؤرخون، لأنه قادم من بلاد الرافدين.
تلك الآثار من جهتها الغربية تبرز منحوتة للأسد مع تبيان ترتيب النجوم والكواكب الفلكية بُنيت بعناية، لتتضح لنا مجمل الكواكب كالمشتري والمريخ والبقية كنصب تذكارية مع مسار يتبع قاعدة الجبل في ممر يربط المدرجات الشرقية بالغربية من خلال تلك الصخور، كدليل للزائر ولسهولة العبادة والاستخدام الممكن لهذا الموقع الديني الذي لا بد أنه تم الاحتفال كثيراً وبشكل دوري كما هي الطبيعة الفلكية وحسابات الدين ليقام النصب التذكاري لكل ذلك. وتبقى هذه الآثار تحمل اسم جيب نمرود فقط.
بقايا آثار في جبل نمرود
نمرود الآشوري
نعود إذن لآثار النمرود الحقيقية في العراق وبالتحديد في جنوب الموصل، حيث مدينة آشوريا التي تعود إلى القرن الثالث عشر قبل الميلاد، وكنوز من حقبته، وكما نعلم بأن نمرود هو من سلالة نوح، واسمه نمرود بن كنعان بن كوش حفيد حام بن نوح. وحين أتى المؤرخون ليثبتوا شخصية نمرود المغرور والمتكبر والجبار تاريخياً لكونه ملك الأرض وقتل الكثير من الناس والحيوانات، آخذين بوضع نظرياتهم حسب قوة الدلالات المتوافرة، فمع أي شخصية واقعية وحقيقية تاريخية يثبتون شخصية نمرود بصفاته؟ أو مع من عاش وعاصر؟ خاصة في بلاد ما بين النهرين.
نظريات المؤرخين
المؤرخون من علماء السومريات اقتربوا من شخصية نمرود الذي يعني اسمه جبارا أو متمردا، ليطابقوه مع مؤسس مملكة بابل، وملك بابل هو جد جلجامش ملك أوروك في الحضارة السومرية وبالتحديد في جنوب العراق، ويدعى «إنمركار» الذي كان جباراً في حكمه، وصياداً للحيوانات المفترسة..كما أتى في التوراة، لذا سمي بالصياد. لذا ارتبط بشكل رمزي اسم بابل بالنظام الفاسد كما كان النمرود في جبروته، ولكونه أول جبار في الأرض، حكم أنمر كار عام 2700 ق.م، بعد أن خلف والده وقام بالسيطرة على بلاد سومر وعيلام «الأهواز» حالياً، وأنهى حكم إتانا في مدينة أور.
ويذهب بعض المؤرخين أمثال إيغال ليفين أستاذ التاريخ الجامعي والمهتم بدراسة الأنثروبولوجيا التاريخية، إلى القول إن نمرود يذكرنا بسرجون الأكدي الذي توسع في بلاد الشرق والجزيرة العربية وبحر الخليج وعمان بالقتل والإرهاب، حتى عهد حفيده «نرام سين»، المشتق اسمه أيضاً من نمرود.
أما ديفيد مايكل روهل وهو عالم بريطاني في علم المصريات، فنظريته في نمرود تقارب شخصية ملك «أرارتا» المدعو «إنمر كار» لتشابه أسطورته مع نمرود، والمسمى أيضاً في «كار» الذي يعني الصياد.
كما يقول المؤرخ رونالد هندل بأن حروب نمرود تشبه حروب عدد من الملوك الآشوريين، منهم : «نينورتا» الأول وهو ملك من ملوك الإمبراطورية الآشورية الوسطى، الذي كان ملكاً قوياً مثل نمرود.
منحوتة متخيلة للنمرود
نمرود في كل منا
كل تلك النظريات للتقريب بين شخصية النمرود بشخصيات تاريخية حقيقية وملموسة وموثقة بالآثار والكتابات، تجعلنا أمام شخصية لعبت دور الملك المعتدي في توسعه والمستغل في تعديه على أراضي البشر، وهذا يشبه شخصيات عدة مرت علينا حتى في عصورنا الحديثة، فلا نهاية لمصطلح الطاغية كمصطلح لا نهاية لها إن لم تكن القوانين مطبقة، ناهيك عن كلمة الطاغية في كل منّا، لهذا المصطلح مكان ولو صغير في داخل الإنسان بسبب الظلم الذي يتعرض له في سياسته أو مجتمعه، أو بسبب فقره كمثال، أو أسرته وحضن الأب المتسلط، ليخرج الطاغي النمرود الصغير بسهولة وهو يمر بين أفراد مجتمعه المجحف في حقه، حتى يكبر النمرود فيه.
«بوغز بوني»
في عام 1938م خرج اسم نمرود ولأول مرة كمُنتَج تلفزيوني وذلك في مسلسل «بوغز بوني» وهي شخصية كرتونية خيالية إبداعية حديثة أنتجتها شركة أميركية، فكان نمرود هو ما يُعرف به شخصية «إلمر» الصياد العظيم والمتجبر، وعلاقته مع الأرنب الفقير «بوغز بوني». كان ذلك تعبيراً لكون النمرود كان صياداً جباراً، ليتم إسقاطه على هذا الفيلم للأطفال، كنموذج مفاهيمي بين الظالم والفقير.
والصياد إلمر الذي اشتهر بسمنته وثقل حركته والمطارد بشخصيته الساذجة، تم تقديم ظلمه ليس كشخصية نمرود الأصلية، كما تخيله القارئ في بنيته الضخمة، بل قدمت في بوغز بوني الرسوم المتحركة أن الظالم عادة هكذا يبدو فلا شجاعة في شخصيته لكونه صياداً، بل منتفخ البطن بسمنته وثقل حركته، لذا يضع كل قوته في سلاحه، والسلاح قابل للكسر والتعطيل.
هذا المظهر الكرتوني كان صالحاً لتعليم الطفل وتكوين مفاهيمه الأولى عن المعنى الحقيقي للقوة، ليتم إطلاق اسم النمرود على النموذج المتخيل إلمر الصياد.
الصياد بين أن يكون متبصراً وقاسياً
صورة اللوحة الحجرية وصيد الأسد
هذه اللوحة الحجرية العائدة في عمرها إلى عام 860 قبل الميلاد، وجدها الباحثون في قصر آشوري، وتم وضعها في المتحف البريطاني، كُتب أسفلها: نمرود يطارد ويطلق سهمه على أسد. لكننا نتساءل كباحثين، هل يمكن أن يكون نمرود صياداً وهو باني مملكة بابل؟ أم أنه أصبح يلقب بالصياد لكونه ذا بصيرة ومحارباً جسوراً غزا أراضي كثيرة وبنى ثماني مدن كما ورد؟ لكن لِمَ لَمْ يُلقب بالفاتح؟ فالصياد يقابل القوة أيضاً. كما أننا حين نتأمل هذه اللوحة الآن، لا نجد فيها سوى الممارسة المعهودة للملوك وهوايتهم التاريخية في الصيد.
نمرود في «الكوميديا الإلهية»
المطلعون على كتاب الكوميديا الإلهية للإيطالي دانتي أليجيري، يجد أن للنمرود نصيباً بين سطوره، فمنذ أن كتب الكتاب في العصور الوسطى، نستنتج كيف كان النمرود معروفاً في ذهن الناس بأنه عملاق شأنه شأن العملاق الأسطوري اليوناني ابن الإله زيوس المدعو «تيتيوس» قاتل الأطفال، أو «تيفون» الوحش اليوناني الأسطوري ذو المئة رأس، ليضع دانتي نمرود على الحافة الخارجية لدائرة الجحيم، مقابل الذنب الذي ارتكبه في بابل. فكان تصويراً أدبياً مهماً حين قرب النص السردي للأحداث التاريخية، خاصة مع شخصية نمرود الغامضة والشهيرة آنذاك.
بين الأرمن في آسيا الصغرى والنمرود في أور
صورة مدينة أور
في تاريخ الأرمن والذي يعود أصلهم إلى العرق الآري، يقول قدماؤهم بأنهم من المصلين، وأنهم من الآمنين الأوائل، فقد ذكر هيرودوتس بأن الأرمن كانوا في القرن الرابع قبل الميلاد ينتقلون عبر نهر الفرات على مراكبهم يحملون بضائعهم إلى بابل ليبيعوها هناك. لكن بين أنهم كانوا في بلاد الفرات، ودخولهم بلاد آشوريا «نينوى» وبين نمرود الذي يعود في أصله وولادته إلى إمارة «أور» السومرية الأصل في جنوب العراق شمال البصرة، ويختلف المؤرخون ويتسع الجدل بين المثبت تاريخياً، وبين الرواة، في أن يكون للأرمن دور في قتل النمرود كما يُذكر.
1938
في هذا العام تم إنتاج الفيلم الكرتوني «بوغز بوني» وكان اسم نمرود فيه استعادة جديدة ليتحول إلى منطق الصياد في معانيه وأبعاده التربوية والأخلاقية لتوجيه الأطفال.
860
تم إيجاد لوحة حجرية تعود إلى عام 860 ق.م، تعبر عن ممارسة الملوك للصيد، كعادة متأصلة لديهم وعبر التاريخ، ونتأمل كيف هي مستمرة إلى الآن، من صيد الأسد إلى الغزلان والأرانب والطيور.
2700
مؤسس مملكة بابل حسب المصادر التاريخية يدعى إنمركار، حكم عام 2700 قبل الميلاد، كان جباراً في حكمه وصياداً للحيوانات المفترسة، وقد ارتبط اسمه عند بعض المؤرخين باسم نمرود.
البيان