التقدم إلى الفدرالية ام التراجع إليها ..
المحامي غسان معمر
22-03-2009 04:46 AM
لم يكن الاعلان عن مسودة المشروع الجديد حول الاقاليم المحلية او مجالسها بحاجة إلى كل هذه الردود الاعلامية حوله لو انه انضج طبيعيا عبر مؤسسسات المجتمع المدني قبل تقديمه كمشروع قانون ناجز على شرفة الحكومة او البرلمان.
والمشروع بما فيه من تقسيمات جديدة يعيد إلى الاذهان المقولات الكلاسيكية في بناء الدولة الحديثة والتي قدم لها علم القانون الدستوري كنظام فدرالي تنشؤه مقاطعات متعددة لخلق كيان واحد او كونفدرالية شبه تعددية بحيث يبقى لكل كيان فيها ذاتيته السياسية. وبين تلك النماذج في إدارة الحكم تتفاوت علاقات المركز بالاطراف حسب اهمية السلطة المركزية ورغبة الشعب في حكومة جامعة بينهم.
لكن واضعي القانون فاتهم للاسف بعض حقائق التاريخ حول اسباب تشكل النظام الفدرالي، ذلك ان الدولة بمفهومها الحديث تكون بأفضل صورها الدستورية كلما انتفت اوجه التعددية فيها سواء على الصعيد الاداري المحض او على الصعد السياسية عامة وكلما سعت إلى تذويب الحواجز والامتيازات التي تحول دون تفعيل سياسات التنمية المستدامة بين اقاليمها . وهذا ما تنطق به شواهد عصرنا الحديث حيث تنتفي التعددية في معظم دول العالم وتتركز إدارات حكمها في اجهزة تنفيذية تابعة لسلطة موحدة تشرف على أداء اطرافها دون ان تنتقص من فاعلية وكفاءة اللامركزية الادارية بالقدر المطلوب.
وما نعرفه عن دول تجمعها انظمة فدرالية في "الشكل" و "المضمون" ، ان تلك الدول اتخذت شكل النظام الفدرالي تطورا نحوه من حالة اقل منه بكثير وليس رجوعا إليه كم هو حاصل لدينا. وهذا تماما ما حدث في الولايات المتحدة الاميركية عقب حربها الاهلية التي فرضت عليها النموذج الفدرالي كوسيط يجمع ولايات وشعوب من عروق متعددة في بوتقة دولة واحدة خروجا من مأزق الحرب الاهلية التي اهلكت ما يقارب السبعمائة الف امريكي . وبالتالي فإن تبني هذا النظام كان بالنسبة للولايات المتحدة الاميركية خروجا من واقع اسوء منه بكثير لو لم يقدر لها تبني الفدرالية نظاما تذوب في بوتقته كافة الخلافات التي أشعلت الحرب الاهلية.
وكذا الشأن بالنسبة للكيان السويسري الذي عرف الفدرالية نظام حكم منذ اكثر منذ 800 عام تقريبا بفعل خصوصية التكوين الجيوبوليتيكي لتلك الدولة واقتداء بالأسس التي تعارفت عليها شعوب تلك المنطقة وليس من قبيل الرجوع نحو الفدرالية كما قد يتراءى للبعض حين مقارنة تجارب الدول بعضها ببعض.
أما السير باتجاه الفدرالية من مرحلة متقدمة - كما بات منتظرا من الحكومة- فهذا يعني بداهة ان تجربة الانصهار في كيان متجانس اقتصاديا لم تحقق بنظر المسؤولين ما كان مرجوا منها حتى الآن ، وان التراجع إلى كيان اقل منها انصهارا قد يكون هو الانسب في نظر القائمين على الحكم. صحيح ان التراجع نحو اقاليم اقتصادية قد لا يكون سببا في خلق حالة من اللا انصهار السياسي ، إلا ان ما حملته مقترحات الحكومة في نصوص المشروع يستدل منها على ان سيادة المجالس على اقاليمها قد تمتد إلى مستويين: المستوى الاول ، وهو تشريعي، حيث اناط المشروع بالمجالس صلاحية اصدار التعليمات الخاصة بتلك المنطقة كما اجاز تخصيص انظمة رسوم لكل اقليم بخلاف الآخر. والمستوى الثاني وهو اقتصادي حيث اناط بالمجالس ما هو ابعد من ذلك بكثير وهو حق اقرار الخطط الاقتصادية والاجتماعية في الاقليم. بمعنى ان مركزية التخطيط التي تسعى الدول عامة إلى المحافظة عليها تصبح مهددة امام صلاحيات لا مركزية تملكها المجالس في اقرار مخططات خاصة لكل اقليم. ولا يسعنا القول ان المجالس مقيدة بمرجعية حكومية عليا ذلك ان مثل هذا التقييد لا يحتمل استنتاجا او التباسا بل يقتضي وضوحا لأن فيه مساس بسيادة السلطة التنفيذية التي كفلها الدستور الاردني في المادة 45 منه. وبالتالي فإن تفريغ السلطة التنفيذية من جانب من صلاحياتها بموجب قوانين هو بمثابة استثناء على الاصل العام الوارد في الدستور ولهذا فإن أي التباس يثير التعارض مع الاصل العام يقتضي معالجة مسبقة لتداعياته السلبية على إدارات الحكم المقبلة ، وعدم ترك السلطات تتخبط لاحقا فيما بينها لمعرفة مهامها وواجباتها بين الدستور والقانون.
مشروع قانون الاقاليم كما جاء يحمل في نصوصه بدايات التراجع إلى الفدرالية ، وليس التقدم إليها، وكان حريا بالمشرع ان يدرك ان المكتسبات الاقتصادية التي حققها الاردن طوال عقوده الفائتة حتى الآن - أيا كان راينا بحجم نجاحها - هي بفضل انصهاره في بوتقة اقتصادية مكملة لبعضها البعض وليس بفعل اي تفسخ او تجزئة إدارية أو اقتصادية لإمكانياته او موارده.