يرسمـون لحياتهـم سيناريوهــات لعشريـن سنـة
مصطفى ابولبده
23-04-2007 03:00 AM
جرّبها! ستندم أول مرة، لكن لا بأس.
فيما أنت عائد الى منزلك للغداء ظهر اليوم... ، جرّب ان تسأل نفسك: كيف ستكون الأحوال بعد خمس سنوات من الآن؟ ليس فقط حالك الشخصي بالعمل والبيت والأولاد، وإنما حاول أن توسّع دائرة ما يسمونه بالعصف الذهني المنفرد واستنطق مخيلتك عن الحال العام أيضاً.
ولأن حالك هنا في الاردن يتأثر فوراً بحال كل ما يجري في العراق وفلسطين والخليج، لذلك فانك إن بدأت التفكير بهذا السؤال ستجد نفسك تغرق في عتمة داخلية يؤججها توتر وازدحام الطرق والتكشيرة على وجوه كلّ من تصطدم عيناك بعيونهم.
لن تستطيع في الطريق استكمال هذه الرياضة الذهنية حول السؤال الكبير الشيّق وربما الغبي: كيف ستكون الأحوال بعد خمس سنوات. ولذلك ستجد ان الموضوع ربما يستحق أن تتركه للمساء, بعد السهرة مع الفضائيات وبعد أن ينام أهل البيت. هذا بالتأكيد أفضل لأن الهدوء والنعاس سيرفعان من مستوى الحكي الصامت.
غيرك من المؤسسات الحكومية التي يعمل فيها بعض خريجي الجامعات الامريكية، سبقوك الى طرح هذا السؤال في غرف نصف مغلقة. فعلوا ذلك عندنا وفي معظم الدول العربية، لكنهم سألوا عن الأحوال كيف ستكون، ليس بعد سنة أو خمس سنوات وانما في عام 2020 . فعلوا ذلك قبل بضع سنوات وأصدروا ملفات, جلّدوها بعناية وأودعوها الارشيف، لأن لا أحد غيرهم يقرأها أو يقتنع بها. وقد يكون الأصح أن لا أحد في موقع المسؤولية يجرؤ على إجراء مثل هذه الدراسة إن كانت بشكل علمي دقيق. فالموضوع مخيف بالنسبة لهذه المنطقة. واذا كانت بلدان العالم المؤسسية تستطيع ان تستقرئ وترصد وترسم صوراً مستقبلية للمتغيرات الطوعية والقسرية، بهوامش خطأ محسوبة، فاننا في هذه المنطقة يستحيل ان نتصور مستقبلنا بعد خمس سنوات، فكيف بعد عشرين سنة؟!
عندما تهجع مساء اليوم وتستلقي (صحياً ننصح أن يكون ذلك على جنبك الأيمن) - ابدأ باستعراض ما حصل لك شخصياً خلال السنوات العشر أو العشرين الماضية. هذا الأمر سيقلل - بالتأكيد - من توترك. جرّب وستكتشف أن التقلبات التي طرأت على حياتك كانت جامحة وأحدثت لديك نمط حياة وتفكير وتعامل أشدّ حدّة وسرعة مما حصل مع والدك وأجداده الثلاثة على مدى قرن أو يزيد. وحين ترى بأم ذاكرتك أن سرعة التغييرات وحدّتها لن تترك مساحة للتأكد من مدى استقرارك الوظيفي ومن موعد زواج ابنك (نظراً لصعوبة الاوضاع المعيشية) أو موعد طلاق ابنتك (نظراً للارتفاع الهائل في معدلات الخلع والطلاق)، فانك لا بد ستبتئس.
لا بأس. استمر في التجربة، لكن ارجع قليلاً الى سهرة الليلة التي امضيتها أنت والأسرة تتنقلون بين عشرات القنوات الفضائية العربية، معظمها للأغاني ورسائل الموبايلات وعرض العقارات المرفهة والشقق التي لا يقل سعرها عن مليون دينار، وللتوسع في مناقشة زواج المسيار ونواقض الوضوء او للتنجيم وقراءة الطالع وشفاء المرضى بخلطات الاعشاب والأدعية. شيءٌ مُسَلٍّ لم يحظ به الجيل السابق! فخلال أقل من خمس سنوات ارتفع عدد القنوات الفضائية العربية الى حوالي ثلاثمائة،منها فقط ثلاث هي التي تربح. فكيف إذن سيكون الحال بعد خمس سنوات من الآن؟ أيّ نوع من الإعلام والثقافة ذاك الذي سيشكل ثقافتك اليومية أو الذي سيتربى عليه ابناؤك أو أحفادك؟ وهل ستعود قادراً على ترك الريموت كنترول بأيدي الأولاد وتغيب عن الغرفة لمدة نصف ساعة؟.
لا تنتقل في مخيلتك الى الاوضاع الاقتصادية والتربوية والاجتماعية، لانك لن تستطيع المتابعة.
لا بأس. عند هذا الحدّ من القراءة المستقبلية البائسة لحياتك الشخصية والعائلية، فقد يكون من الأفضل توسيع دائرة التخيّل لقراءة الحال الوطني والقومي كما سيبدو بعد خمس سنوات من الآن. فربما يخفف ذلك من ثقل كابوس المستقبل الشخصي على صدرك:
- ابدأ بالانتخابات البلدية والبرلمانية التي سينشغل بها الناس خلال ما بقي من العام الحالي. ولتكن بداية مراجعتك من عند الأموال التي ستنثر على موائد الأكل أو التي ستدفع ]للفقراء والمساكين وأبناء السبيل تشجيعاً لهم ليمارسوا حقهم الدستوري في انتخاب النزيه الأفضل الذي يرفض الرشوة والواسطة ويرفض تهديد منافسيه باغتيال الشخصية ويلتزم بأن يبقى وفيّاً مخلصاً لدائرته الانتخابية الصغيرة ولدائرته الأكبر التي هي الوطن!![ هي ليست لشراء ذمم الناخبين وإنما حوافز لتنشيط حراك المجتمع المدني!! أموال كثيرة ستدفع وستحرك السوق وتسدد بعض ديون الناخبين كما ستضمن تنظيف كشوف براءة الذمة لدى المرشحين. وفي النهاية ستأتي مجالس بلدية وبرلمانية تستحق منك أن تتخيل الى أي حد ستكون مختلفة عن التي سبقتها. جرّب أن تتخيل بشكل موضوعي منصف كيف سيكون المجلس القادم مختلفاً عن الحالي، وإن طار النوم من عينيك لا تكتئب. تابع المحاولة لأنها تستحق. وان انسدّت مخيلّتك العائلية والوطنية عن متابعة السؤال عن الأحوال بعد خمس سنوات، فلا بأس أن توسع الدائرة وتحاول أن تتصور ما سيكون عليه الحال في الدول الشقيقة المجاورة التي ترمي علينا كل يوم ببعض همومها.
وحتى لا تختلط الصور وتتعقد، يفضل الاكتفاء بأحوال فلسطين والعراق ولبنان. هذا الأمر لا يحتاج من الصور لاكثر من استذكار آخر نشرة أخبار سبقت النهوض المتثاقل للنوم:
- ابدأ من عند منكافات السياسيين وتهديداتهم لبعضهم على شاشات التلفزيون وتصور الى أين يمكن ان تفضي هذه التحشيدات السياسية والطائفية بعد خمس سنوات. لا داعي لاحصاء اعداد القتلى والتفجيرات والاغتيالات في كل بلد، فهذه لم تعد قصة يتوقف عندها المشاهدون. فقط تصوّر أحوال الناس في تلك البلدان الشقيقة اذا استمرت هذه الطبقة من السياسيين في الحكم, واذا دامت الأمور بنفس معدلات التحشيد السياسي والطائفي والميليشياتي وبذات الظروف الاقتصادية والاجتماعية التي تراها قابلة في اي لحظة للانفجار الداخلي والاندلاق على بقية شعوب المنطقة.
- لا أدري إن كان اللون الديني الذي اصبح يصبغ خرائط المنطقة بدرجات متزايدة،سيريحك أو يقلقك. فهذا الأمر تحدده أنت شخصياً. لكن المؤكد أن العمل السياسي والحياة العامة أصبحت أكثر تعددّية بمشاركة الأحزاب والحركات الدينية المعتدلة في دائرة صنع القرار. فقد قبلت وطبّعت واجتمعت مع الذين كانوا يرفضون الالتقاء بهم. وحتى الحركات التي كانت ترفع شعارات اصولية (إن جاز استخدام هذا التعبير الخاطئ) فقد دخلت الآن باللعبة السياسية وقواعدها المعروفة، وهو ما وصفه أحد وزراء إعلامنا السابقين بحديث للعدد الأخير من مجلة نيوز ويك بأنه نقلة نوعية أضحت فيها هذه الحركات العابرة للحدود "تهتم بالسلطة أكثر من اهتمامها بالله", هو وصف مدّبب لكنه يكشف عن ظاهرة جديدة تتمدد على طول المنطقة ويصحّ الاجتهاد او التكهن بحركة خطها البياني للسنوات الخمس أو العشرين القادمة.
تستطيع أيضاً أن تشغل مخيلتك في الذي يمكن ان يحصل بشمال العراق مع الأكراد ومطالبهم التي تتقاطع مع المصالح التركية ومصالح دول الجوار الأخرى التي تجد نفسها جزءاً من حالة الغليان والسيولة العراقية، وما يمكن ان يتعرض له هذا البلد الشقيق من احتراب مضاعف قبل نهاية العام الحالي. وإذا اضفت لذلك مدى انكشاف الاوضاع اللبنانية والفلسطينية للقوى والضغوط والتدخلات الخارجية التي لا يمكن التحكم بها أو قراءتها لشهرين قادمين, فسيكون أمامك واحد من ثلاثة احتمالات على الأقل:
أن تكون محظوظاً ويخطفك النوم بسرعة، أو أن تبدأ بالبكاء الرجولي الصامت الذي لا يوقظ زوجتك، أو ان يطير النعاس من عينيك وتعود للتلفزيون لتأخذ راحتك في التجول بين القنوات الفضائية العربية الثلاثمائة،.. هذا إن لم يكن لديك لاقط للأقمار والقنوات الاوروبية.
mustafa@albaddad.com