هو الموت الذي نؤمن به ، فلا مفرّ من قدر الله ، يأتي فجأة كل يوم ويخطف الأحبة ، هكذا مرّ على المقدم الركن سليمان الركيبات وهو يسارع الخطى نحو سراياه وفصائله على الحدود ليتفقدهم ككل مساء ، أعرف أن سليمان لا يخاف الموت وهو الذي يصاحبه منذ سنوات ، منذ أن علّق نجمة على كتفه وباع نفسه للعسكرية وودع أهله ليذود عن ثغور الوطن.
أوجعتنا يا سليمان "بيك" ، لا أعرفك ولكن أعرف ملامح وجهك التي تشبه وجوهنا ، وجوه العسكر والفقراء المزروعين في البلاد بيارق عز وسيوف مشرعة ما خبت يوما أمام الحق ... يا سليمان يا أيها " البدوي " الذي أتعب الصحراء وهو يجول ويحرس الحدود ، زنودك من طيب ورصاص و فيك " سمرة تغوي البنات " يوم زغردن عندما إزدان التاج على كتفك وحضن النجمة ، واليوم تسيل دموعهنّ على فارس غاب عن الديرة .
تبكيك المفارز على الحدود ، يبكيك عسكر الكتيبة وأنت تمرّ عليهم كل فجر ، ومع كل طلعة شمس ، تقطع مئات الكيلومترات ، وترصد معهم الثغور مخافة معتدّ يحاول خرق بلادنا ، أو مخرّب ينتهز الفرصة ليدخل الأسلحة ، أو مهرّب يراوغ الرمال علّه ينجح ويدخل المخدرات .
تباعدت المسافات بينك وبين أهلك وعائلتك ، ودعتهم هناك من مضارب عشيرتك من بادية الجنوب ، قاصدا حدودنا الشرقية ، أمضيت عمرك وأنت تقطع قلبك من الضفة إلى الأخرى.
أوجعتنا ونحن نرى أبناءك جالسين في حضرة جلالة ملكنا الذي أتى ليواسيهم ، رأيت حزن الدنيا في عينيه ، حزن القائد على فقدان أحد ضباطه ، أوجعنا ذاك الحزن والفقر الذي يلامس وجوههم وأحدهم أبى إلا أن يستقبل جلالته وهو يلبس " بسطار " والده العسكري ، فأي شرف زرعته بهم ، وذاك هو والله فخر العسكر دوما ..
لا يخيفنا الفقر ولم يخف سليمان ، ففروسية البدوي وعفة نفسه فوق كل الجراح والحاجة ، ولم يكن الوطن والدفاع عنه بقيمة ما يأخذه سليمان وصحبه من الجند ، فقد وفرّ ملايين الدنانير للخزينة وهو يمنع التهريب والخراب أن يعبر للوطن .. ولكن يوجعنا الزهد بهؤلاء الذين يتركون بيوتهم أياما وأسابيع وهم ما بين البرد والتعب والموت المزروع على طرقاتهم ومع ذلك يحمدون الله على الوطن وسلامته.
رحمك الله يا سليمان وجعلك من الشهداء والنبيين والصديقين ، وألهم جندك وعائلتك الصبر والسلوان ، والسلام على الوطن وعلى الجيش حامي الحدود وحارس الهوى والهوية.