وزارة التنمية السياسية: "أنا لا أكذب ولكنني أتجمّل"!
د. محمد أبو رمان
19-03-2009 04:42 AM
لم يستطع "الرفاق اليساريون" إخفاء فرحتهم الغامرة في تولي إحدى قياداتهم موسى المعايطة موقع وزير التنمية السياسية، بعد التعديل الوزاري الأخير، وهو من الشخصيات الوزارية الجديدة القليلة في التعديل التي حظيت بترحيب الوسط السياسي.
إلاّ أنّ اختيار يساري معروف بآرائه الإصلاحية لا يطوي الواقعة المُرّة في المشهد السياسي الأردني بأنّ وزارة التنمية السياسية ذاتها باتت في تقييم الشريحة الواسعة من الإعلاميين والسياسيين "فائضاً عن الحاجة".
يقف الوزير الجديد في مواجهة سيل عارم من الإحباط والتشكيك والانتقاد لواقع وزارة التنمية السياسية، من قبل شريحة واسعة من الإعلاميين والسياسيين والمسؤولين السابقين، يتفق جميعهم على أنّ مصداقية الخطاب الرسمي في قصة الإصلاح السياسي في الحضيض، ولا أحد يصدق أنّ هنالك إرادة سياسية حقيقية صادقة بالقيام بإصلاح سياسي بنيوي.
لا يحاول المعايطة في نقاشاته مؤخراً مع النخب المختلفة القفز من مركب إلى آخر، وما يزال يحتفظ بخطابه السياسي نفسه. لكن ميراث وزارة التنمية السياسية التي مضى على إنشائها ستة أعوام لا يدفع إلى التفاؤل أو بناء أية توقعات إيجابية، بل إلى الآن ما يزال الاعتقاد راسخاً في أوساط سياسية واسعة أنّ الوزارة لا تحظى بدور محدد، ولا مهمات واضحة، ولا تمتلك وزناً سياسياً حقيقياً في المقاعد الوزارية وفي تقرير السياسات العامة في البلاد.
موسى المعايطة يساري "معتدل"، يوازن بين طموحه الإصلاحي وبين إدراكه لتعقيدات الواقع السياسي، وقد شق طريقاً جديدة مع مجموعة من رفاقه اليساريين تجمع بين الأفكار الاشتراكية بصورتها الملطّفة وبين محاولة توطين هذا الخطاب وإدماجه في شروط اللعبة السياسية الداخلية، في محاولة لاستيعاب تجربة الأحزاب الاشتراكية الأوروبية.
أسس هذا الاتجاه اليساري حزباً سياسياً هو "اليسار الديمقراطي"، أصبح المعايطة أميناً عاماً له، لكنه حوّله إلى منتدىً سياسي، بعد أن رفض الموافقة على شروط قانون الأحزاب السياسية الجديد الذي يلزم الأحزاب الجديدة والقديمة بإعادة الهيكلة للحصول على عضوية خمسمائة شخص كحد أدنى.
في مقابل مجموعة "اليسار الديمقراطي" طفت على سطح المشهد السياسي الأردني، خلال السنوات السابقة، توجهات يسارية أخرى، فهنالك "اليسار الاجتماعي" وهي حركة أردنية تقول إنّها تجمع بين "الأفكار اليسارية" و"هَمّ الحركة الوطنية الأردنية"، بينما يتهمها خصومها، من اليساريين بـ"النزعة الإقليمية"، في مقابله تيار يساري آخر أقرب إلى "الطابع القومي"، ويركز على الصراع مع "المشروع الصهيوني" باعتباره جوهر المعركة السياسية التي يخوضها، ويغلب عليه "الطابع الراديكالي".
في حين ما يزال الحزب الشيوعي محتفظاً بخطابه السياسي الكلاسيكي، وهنالك أحزاب يسارية يغلب عليها التواصل السياسي مع القوى الفلسطينية الأم، كحزبي حشد والوحدة الشعبية مع الامتزاج بمطالب عمالية ويسارية، وربما حزب الوحدة الشعبية قد خطا خطوات مهمة في سياق تبني قضايا حيوية وملحة، من خلال دوره في حركة ذبحتونا وجبهة الخبز والديمقراطية.
مقربون من المعايطة أشاروا إلى وعود تلقّاها قبل استلام منصبه بجِدِّية حكومية هذه المرّة في التعامل مع مشروع الإصلاح السياسي. لكن وبالرغم من هذه التصريحات والتطمينات، إلاّ أنّ جميع المحاولات السابقة للإصلاح السياسي باءت بالتراجع والخذلان، ولم يكتب لها النجاح، ما وسّع وجذّر دائرة الشك لدى النخبة السياسية والرأي العام في رؤية إصلاح سياسي بنيوي يؤدي إلى قفزة نوعية في إدارة الحكم ومساحة المشاركة الشعبية.
أمّا اليوم، فإنّ المعروض، رسمياً، هو العبور إلى الإصلاح السياسي عن طريق مشروع "الأقاليم التنموية"، وهو مشروع يهدف إلى تعزيز اللامركزية الإدارية وتوسيع دائرة المشاركة الشعبية في اتخاذ القرارات من خلال إنشاء ثلاثة أقاليم رئيسة، على المساحة الجغرافية للمملكة، شمالاً ووسطاً وجنوباً.
وفي التفاصيل، خرجت اللجنة الملكية للأقاليم بتوصيات متعددة وجوهرية ستؤدي إلى تغيير في طبيعة المشهد السياسي، وقد تبنّتها الحكومة بدرجة كبيرة، وأعلنت أنّها ستتدرج في تطبيقها، خلال عامين وصولاً إلى عام 2011، والذي سيشهد انتخابات مجالس محلية، لكل إقليم، يتولى كل مجلس القضايا الخدماتية والتنموية والإدارية، ويرأس الإقليم مفوض مع مكتب تنفيذي، وستكون هنالك انتخابات بلدية شاملة، مع انتخابات نيابية أيضاً.
أنصار هذا المشروع ومؤيدوه يرون أنّ الوصول إلى هذه النقطة في عام 2011، بمثابة قفزة كبيرة في الإصلاح السياسي والإداري معاً، إذ ستؤدي حزمة الانتخابات والمجالس البلدية والمحلية إلى إشراك أكبر قدر من القاعدة الاجتماعية، ليس فقط في الانتخاب، بل في الممارسة الإدارية والسياسية، وهو ما يجعل من الجميع شريكا في تحمل عبء المسؤولية السياسية والإدارية.
ما هو أهم من ذلك، أنّ توصيات اللجنة الملكية تطالب بتقليص عدد أعضاء مجلس النواب وإجراء الانتخابات النيابية المقبلة وفق قانون جديد يمنح الجانب السياسي أهمية أكبر على حساب الجانب الخدماتي والمناطقي الذي يطغى على صيغة مجالس النواب خلال السنوات الأخيرة.
بالرغم من ذلك، فإنّ "مطبخ القرار" يصر على إبقاء مبدأ "الصوت الواحد" في قانون الانتخابات المقبل، والذي يمنح الأولوية والأفضلية لانتماء الناخب الأولي والجغرافي على حساب تعزيز حضور الأحزاب والبرامج السياسية. في المقابل فإنّ المصادر الرسمية تتحدث عن فتح المجال لـ"مبدأ التمثيل النسبي" للأحزاب، لكن على نطاق ضيق، أقرب إلى طريقة "الكوتا" أو الحصة المحدودة.
المتشككون من مشروع الأقاليم يرون فيه "هروباً إلى أمام"، وتحايلاً جديداً من الحكومة على استحقاقات الإصلاح السياسي الملحة، والتي أفرزت خلال الشهور الأخيرة حركات جديدة بسقف أعلى من المطالب السياسية، أبرزها المجموعة التي بدأت بالمطالبة بـ"الملكية الدستورية" وهي دعوة غير معهودة في المشهد السياسي المحلي.
وبعيداً عن توجسات توجه سياسي يرى في الأقاليم الثلاثة تمهيداً لإقليم رابع في الضفة الغربية، وتعبيد الطريق لاستحقاقات الحل النهائي وإدماج الضفتين مرة أخرى، فإنّ الهجوم الأكبر على المشروع، من دعاة الإصلاح، يتمحور في الشك بوجود إرادة سياسية صارمة للإصلاح، ويرون أنّ المقصود بالترويج للأقاليم والحديث عنها خلال السنتين القادمتين يكمن في لعبة "إضاعة الوقت" وتمرير السنوات الأولى من إدارة الرئيس أوباما، التي يتوقع سياسيون أن تمارس ضغوطاً على الحكومة للمضي في إصلاحات سياسية.
إذن، الأقاليم مشروع كبير يمثل العنوان الأحدث للإصلاح السياسي في الأردن، وهو في الوقت نفسه امتحان حقيقي لمطبخ القرار أمام الرأي العام والنخب السياسية، وإذا شعر الرأي العام بعدم جدية الولوج إلى الإصلاح البنيوي من أي بوابة كانت سينفض يديه تماماً من وعود الإصلاح الرسمي، وسيتعامل معها وكأنها فقط مناورة مع المطالب الإصلاحية ومع الخارج، وستصبح مطالبات إغلاق بقالة "التنمية السياسية" محل إجماع سياسي باعتبارها عبئا إداريا وماليا وتحايلا على الإصلاح على قاعدة "أنا لا أكذب ولكنني أتجمّل"!
m.aburumman@alghad.jo