1-
في لعبة «المتاهة» كلما مشيت في مسرب ما، وقضيت وقتا لا بأس به في سلوك طريق متعرج ذي زوايا حادة، وجدت نفسك وقد عدت إلى نقطة البداية، لتبدأ السير في الخيار نفسه، وقليلون هم من يفلحون في الخروج من المتاهة، إن كان ثمة طريق للخروج أصلا!
المتاهة التي نعيشها اليوم أشد تعقيدا بملايين المرات من تلك اللعبة، بل ربما هي أقرب إلى المسرح العبثي، حيث تقوم الأمور كما يبدو للنظارة على أحداث تبدو بلا طائل، ولكنها في الحقيقة تشكل الوجه الآخر الحقيقي لما يبدو أنه حقيقة!
-2-
من المقولات التي اشتهرت على لسان عميد المسرح العربي يوسف وهبي في أحد أفلامه: ما الدنيا إلا مسرح كبير، وهي مقولة في أصلها وردت في مسرحية لوليم شكسبير بعنوان « كمــــا تُحــب «أو «كما تشاء» تقول: الدنيا مسرح كبير، وإن كل الرجال والنساء ما هم إلا لاعبون على هذا المسرح..!
-3-
لسنوات خلت، كنا نعيش مسرحية كبرى، شخوصها أبطال، يتفوهون بكلام كبير، كله حماسة ورفعة وسمو، ثم ما لبثنا أن عرفنا أن كل ما شاهدناه وعشناه، لم يكن غير كذب في كذب، فلا يوجد ثمة لا قضايا قومية كبرى، ولا وطن عربي كبير، ولا عمل عربي مشترك، ولا قضية الأمة الأولى، ولا أمة أصلا، بل ثمة شراذم ومزق واشلاء ترتدي ثوب الكمال والجمال، وهي أبعد ما يكون عنهما..
حسنا حدث أن انهارت جدران المسرح، وانتهى الدرس يا «غبي» والغبي هنا، ذلك المواطن العربي البسيط الذي صدق كل ما قيل وانتظر الفرج ممن كان يقاوم النور، ويربي الخفافيش، ويحارب الشمس، ويلطخ وجه القمر!
حسنا أن تفرق الممثلون، بعد أن اختلفوا، و»فركشوا» اللعبة المقيتة، وانتهى الدجل، وبدأ عصر جديد، الممثلون فيه يقفون على خشبة الحياة، لا المسرح، ويؤدون أدوارهم القبيحة في الواقع، بكل «جرأة» ، فقد سقطت الأقنعة، بل قل: تهرأت لكثرة الاستعمال، وحتى لم يعد لها من دور يذكر، فقد أصبحت عبئا على لابسيها، وربما ملوا من التصاقها بوجوههم، ولم تعد اللعبة مسلية!
-4-
الأكثر مأساوية في المشهد كله، أننا اكتشفنا أن كثيرا ممن كانوا يؤدون دور «الأبطال» على خشبة المسرح، لم يكونوا غير ثلة من الكمبارس، على خشبة الحياة، بل ربما كان بعضهم ليس أكثر من دمى في مسرح عرائس، تحركها ايد خفية في الظلام، وكنا يا لسذاجتنا نضحك ملء قلوبنا وصدورنا، ولم نكن نعلم أننا كنا مجرد ضحايا، ومادة للتسلية!
المهم اليوم، أن لا جدران للمسرح، ولا مسرح حتى، بل كل شيء أصبح حقيقيا، وغير مسل بالقطع، وتلك هي البداية فحسب، أعني بداية الحياة الحقيقية، للخروج من عتم التمثيل، لضوء النهار الحقيقي!
يقول ابن خلدون في مقدمته: وإذا تبدلت الأحوال جملةً، فكأنما تبدّلَ الخلقُ من أصله، وتحول العالم بأسره وكأنه خلقٌ جديد، ونشأةٌ مستأنفةٌ، وعالَمٌ مُحدَث . ويبدو ان قلة من العقلاء يعلمون عمق هذا الوصف، لما جرى في عالمنا، خلال الفترة الماضية، واستحقاقات هذا الفهم ببساطة يقول أننا على أبواب تحول وكأنه خلق جديد، وستعلمون ما أقول لكم ولو بعد حين!
الدستور