حين كنا صغاراً ، كان يبث التلفزيون الاردني مسلسلا في رمضان لم أعد أذكر اسمه، لكن أذكر كم كان يضحكنا الممثل أحمد راتب الذي يتقمص دور الطبيب النفسي. نفس الفكرة الخاطئة حول الطبيب النفسي كانت تتكرر في أي مسلسل أو فيلم تلفزيوني، وكل مرة نضحك على (الكاراكتر) العجيبة للطبيب النفسي.
لقد نقل لنا الإعلام صورة فكاهية من خلال تلك البرامج حول شخصية الطبيب النفسي، فغدا بنظرنا شخصاً غريب الأطوار وبدا لمفهومنا أن الطب النفسي مرتبط لا أكثر بعلاج الجنون والمجانين وليس له علاقة بالناس الأصحّاء. وقد روى أحد الأطباء النفسيين أن مراجعي عيادته النفسية يتجنبون التعرف إليه أو السلام عليه إذا صودف خارج العيادة خوفا من نظرة الناس فلا تثبت عليهم تهمة الجنون.
مليون أردني يعانون من التخبط النفسي .. ذلك الخبر الذي طالعتنا به الصحف المحلية يوم الأحد الماضي أظنه لم يحص أولئك الذين لا يعترفون بمرضهم أو حتى أولئك الذين لا يشعرون بأنهم بحاجة لإرشاد نفسي. مليون حالة هي فقط ما تم الاستدلال عليها من مؤسسات الخدمات الصحية، أي أولئك الذين أقروا أو أقر ذووهم بوجود مشكلة طلباً للعلاج.
ليست كل الاضطرابات النفسية طبعاً تحتاج إلى أساليب علاج كيميائية، فقط الحالات الشديدة حدّ المرض والتي لا تصل أبعد من 10 بالمئة.. فالخبر الجيد هو في اعتبار أغلب الاضطرابات أمور عادية يومية يعاني معظمنا منها وتتطلب فقط النصح والتوجيه والإرشاد والتخفف منها عن طريق الحوار إلى مختصين قبل أن تشير البوصلة نحو الاكتئاب الشديد أو المرض النفسي، وليس في الاعتراف بحاجتنا إلى الارشاد النفسي عيب، فالحياة شديدة ومزدحمة ومليئة بالمشكلات والانحرافات والمنغصات والمعيقات والواسطة والبطالة والاحباط والعنف، فضلا عن الأمراض الاجتماعية المتفشية التي تحتاج إلى من يقوم بتصحيح مفاهيمها، فلا أحد مستثنى أن تغلبه عواطفه لتؤدي به إلى الإجهاد والمرض والتأرجح كرقاص بندول بين عتمة وأخرى.. إن الأمور الصغيرة تكبر لتصبح كرة من النار يصعب السيطرة عليها، فبسبب المسمار فقدت نعلة الحصان، وبسبب نعلة الحصان هلك الحصان، وبسبب الحصان هلك الفارس.
ما زالت في ذهننا وستبقى صورة الطبيب النفسي السلبية وصورة الطب النفسي السلبية وصورة الارشاد النفسي السلبية ما لم تجد جميعها السبيل لتصحيحها. الذهنية السائدة لن تتقبل ارشاداً نفسيا مادام الطبيب النفسي بنظرها يشير إلى الجنون، ولن تتغير الصورة إلا عبر توعية بأهمية الصحة النفسية حين يأخذ الإرشاد النفسي حيزا وجدية أكبر عبر تدريسه في المدارس والجامعات وتصحيح النظرة إليه بجهود المؤسسات الإعلامية وبث ثقافة الصحة النفسية بين كل الأفراد. في كتاب (العادة الثامنة) ستيفن كوفي يقول : الناس في أمس الحاجة إلى المساعدة لكنهم قد يهاجمونك إذا أردت مساعدتهم لأنهم لن يعترفوا بالمشكلة، ساعدهم على أية حال.
الراي.