الاغتراب السياسي عندهم .. والاغتراب الوطني عندنا
17-03-2009 10:59 AM
كتبت .. ثم قرأت .. ثم تابعت .. فتأملت ، وسبحت في بحر من أفكار متلاطمة ، وغصت وسط تعليقات فيها طعم مالح من الرجعية الوطنية ، والانهزام الفلسفي ، فوجدت إنني أقل الكثيرين " ماسوشية فكرية " في دفتر الأحلام الأردني ، ورغم إنني أحاول الابتعاد عن رمي تبعات تردي الحال السياسي في الاردن على جهة معينة أو فئة بعينها ، ولكن تقودني الرؤية غير الواضحة الى التقرير بأننا نعاني فعلا في هذا البلد من الفصام الوطني .
وهذا مرده ، على ما أعتقد ولست بعقيد ، الى التربية الاجتماعية المتراجعة، والتقاليد السياسية التي باتت مشاعا لكل الناس رغم محاولات بائسة من وزارة التنمية السياسية ، التي طالما عانت من نقص الجلوكوز السياسي ، الى جرّ الناس الى التنمية السياسية غصبا ، متناسين مشاكل السياسة التنموية لدى هذا الشعب الذي أصبح شبيها بالنرجيلة ، أو "الأرقيلة " بالبلدي ، منتصب القامة ، يكتوي بالجمر ، ليحرق ما في دواخله ، ثم يتلذذ بها المسئول المتمتع بقضاء وقته على شرفة المساء ، ينفث همومهم دخانا يطير مع الهواء .
ثم يأتي معالي وزير البيئة صارخا : لقد لوثتم البيئة ، ويخرج علينا معالي وزير الصحة مشددا على إن أمراض القلب والشرايين مصدرها التبغ والسجائر ، ناسيا معاليه إن هناك ما هو أكثر "تجليطا " لنا من التبغ والكولسترول .. بل إن هناك من يستورد " الجلطة " بعبوات دماغية خاصة .
ثم لا يتورع وزير الأوقاف عن امتطاء منبر الجمعة ليعلمنا ان الاقتصاد في الغسل والوضوء هو سنة حميدة تهدف الى الترشيد وعدم الإسراف ولو كنا على سيل الزرقاء الملوث ، على الرغم من أن معاليه هو مدخن شره !
أقول هذا وأنا استذكر ردود فعل العديد من الأصوات على الهجمة غير المبررة ، ولا أقول الصادقة ، التي تناولها " كبيرهم الذي علمهم الدس " الأستاذ محمد حسنين هيكل الذي يترجم اللغة صحفية كانت أو سياسية الى اللهجة الناصرية ، وليالي صلاح نصر وشمس بدران ، على طريقة الحدوتة الشعبية ونقرات "كعب " اعتماد خورشيد ..
تلك الردود التي حملت استياء أصحابها من المقالات التي نشرتها الصحافة الأردنية بأنسابها الورقية والالكترونية ردا على ما جاء في برنامج مع هيكل الذي أعدته وقدمته الجزيرة القناة والذي قدم فيه شهادته عن " القيادة الأردنية " لا عن الهاشميين وكفى ..
تلك الشهادة التي اعتمد فيها على " وثائق " لم تقم لجنة محايدة بالحكم على مصداقيتها أو موضوعيتها ، ولم يقف الأمر على الوثائقية والعودة الى المصادر المنشورة في عواصم الثقافة الاستخبارية ، بل اعتمد على أقاويل وتلميحات وتصريحات وغمز ولمز مصدرها أشخاص غير محايدين أيضا ، فقد كان ذلك الزمان ديدنه الغاية تبرر الوسيلة ، والموضوع لا يتعلق بالاتصالات السياسية بين اليهود والقيادة العربية ومنها الاردنية ، بل بما هو أبعد من هذا من مرام وأهداف .
وبعيدا عن الدفاع لصالح الأردن ، فإن المتتبع لأحاديث هيكل على أهميتها من الناحية الإعلامية كمادة خلافية يحبها العرب كثيرا ، فإن هيكل لا شك يعيش حالة " الاغتراب السياسي " كما يعرفها أهل الخبرة في علم النفس السياسي ، لأنه وبناءا على تفسير المصطلح ، لم يعد مرغوبا فيه في الدوائر السياسية التي كان يحيك كثيرا من قصصها ، وقد أقصي بعيدا عن مطبخ صنع القرار في النظام الذي انقلب تماما على مبادئ الثورة المصرية وعاد ليملك الجمهورية ، لذلك فإن رد الفعل عند من يشعر بالإحباط نتيجة استبعاده وإطفاء الأنوار عنه ، يجعله يشعر باليأس ويبحث عن مبررات لرد فعله ، أو إسقاط الاتهامات على خصومه .
الخطير في ما جاء وما سيأتي من كلام هيكل عن القيادة الأردنية ، اتفقنا أم اختلفنا ، إنه يزرع الشكوك تجاه التاريخ القيادي أولا ، ثم انه يحاول فتح الباب لإطلاق الشائعات وزعزعة الثقة العالية بين الشعب والقيادة ، وهذا من شأنه بث روح الإحباط وعدم الاهتمام ، والنظرة الشزرة لأي بادرة سياسية أردنية ، وتبرير أي مطالبة للتغييرات السياسية الجذرية في الأردن ، والاستلقاء لأي حل على حساب المصلحة الأردنية .. ولن أزيد !
وإذا كنت متهما هيكل بأنه مغترب سياسي ، فإنني مرتاح الضمير حين أتهم النخبة الواسعة وأنا منهم في الأردن بأننا نعاني من الاغتراب الوطني .. وهذا مرده الى الإحباط الشديد عند البعض نتيجة شعورهم بأنهم " ثور الله في برسيمه " .
فالمعلومة محجوبة أصلا ، وقائمة اللاءات أطول من مجرة درب التبّانة ، و خطة اللعب تعتمد على طوارىء المرحلة ، وليس هناك من عقليات لها من الحظوة أو التفرغ أو الدعم الفكري والمعنوي ثم المادي ، والأهم امتلاك الرأي الصائب الثابت .
فكل ما هنالك من أشخاص " فزّاعات " تعيدنا الى خيال المآتة في حقول الفقوس البلدي ، تأتي بقرار دبرّ بليل ، تجلس على مقعد الاستشارة والوزارة ولا يسمع لها تغريد ولا نعيق ، ثم ترحل في أول عاصفة تهب على خيّم الحكومة ، ليبدأ شوط جديد من التأنيب والتأليب ، وتسجيل المواقف ، والترويج لفكرة المؤامرة ، أو العيش في حالة "الفلاش باك " ، ليشبعوننا قصصا وحكايات تبدأ ولا تنتهي وكلها تدور في فلك " لما كنت .. لما اجتمعنا .. لما .. ، انا اقترحت ، .. ما حدا رد علي " ، ولم نسمع من أحدهم يوما كلمة حق مفادها { يا جماعة أنا كنت رجل طاولة } .. الجميع أبطال بلا معارك ، وفرسان بلا جياد ، وطبالون بلا سهرة ، إلا الندرة ممن رحم الله !
نعم نحن نعيش غربة وطن ، غير متصالحين مع أنفسنا ، ولا مع الآخر ، نكره الابتسامة بلا سبب ، ونغضب حينما يضحك الآخرون علينا بسبب ، الانتماء بدأ وهجه يخبو ، نبني محبتنا للوطن على تربة المصلحة الخصبة ، بتنا نهرب من أنفسنا ، كأننا أشباح تطارد أشباح ، لا نرحم بعضنا ، ولا نتكافل اجتماعيا ، أو نتكاتف سياسيا .
كلنا زعامات ، وليس بيننا مواطن ، كلنا شعراء ولم ننظم قصيدة ، تحول ولاؤنا وانتماؤنا الى مجرد أغان يرافقها طبل وزمر وفيديو كليب وكلمات يجمعها المغنون من على أرصفة الشوارع ، ثم نقدمها لنقبض ثمنها دراهم معدودة .. أهكذا هو الانتماء ؟ .. هل سندافع عن الأردن بقاذفات الأغاني ، وطائرات المواويل ، ومضادات الدحية التي ترررررعد ! ؟ .. هل هناك بلد في العالم يقبل على أغنيته الوطنية كلمات تقول : " طريق الاردن بطولو مزروع بشجرية .. مزروع خوخ ورمان " ؟ .. أو : انا دمي لونه أحمر ونوعه أردني ؟ هل هذا ردنا علي تخرصات الأدعياء والأعداء !
لو كنا نحب وطننا فعلا لما أنفقنا كل تلك الآلاف من الدنانير على أغان لا تسمن ولا تغني من جوع ، بل لقدمتها الحكومات لتأسيس مركز وطني يجمع فيه كل تاريخ الوطن الشفهي والمكتوب ، وشهادات الرعيل الأول ، وكبار السن والمحاربين القدامى ، ولحافظنا على رجالات أوغلوا في التأريخ وقراءة التاريخ .
ولكن للأسف شطبنا أسماء الرجال الذين صنعوا من هذا التراب مجدا ، وفجروا من دماء شرايينهم نبعا ، وحفروا من شاطىء التاريخ نهرا لا تركد مياهه ولا تأسن .. ولكما قرأت إسم شارع في عمان لا يستحق ذلك الإسم ، أتشدق ، وأقول حسرة عليك أيها الوطن ، لو زرعت بالمشانق ما كانت هذه حال أهلك ! هناك شارع يحمل اسم "أريتيريا" .. فهل يعلم من أسماه أين تقع ارتيريا .. بل كيف لذائقتنا الوطنية ان تستسيغ إسم شارع "الجاردنز " وهو شارع وصفي التل ، وهل استبدلنا ذاكرة رجالنا بذاكرة مقهى يجتمع فيه العشاق !
لا أكتب هنا بائسا .. بل محذرا من عاقبة الأمور ، ورؤيتي للأشياء ليست سوداوية بل هي أنصع من الثلج ، ولكن ما يدفعنا الى الاستياء ان دولتنا لم تربي عجلا وحرث ، لأنها للأسف لا تعرف كيف تختار كثير من الأشخاص ، ينامون ليلهم الطويل ، ولا يعلمون ما يدور حولهم إلا ظهيرة اليوم عبر المنابر الاعلامية ومقالات كتاب الوطن ، ثم يأتيك آت ٍ ليقول : كفاكم .. لماذا كل هذا ، لماذا لا تقدمون الأدلة .. يا هذا ومتى كنا أصحاب أدلة ؟ كل ما في الأمر ان الجميع يجمعون ضدنا الأدلة .. كل ما نملك بقايا عقل يفكر نيابة عن أصحاب الدولة والمعالي والعطوفة والسعادة و"البيوكات " ، هم يأكلون الهبرة ، ونحن نأكل الحسرة ، لا ينالنا سوى تعب التفكير وإرهاق السهر .. وكأننا أصحاب هذه الملايين من الدنانير أو ملّاك تلك الشركات .
يا صديق .. نحن نقاتل حتى لا نموت في العرّاء كالنسور التي تحتمي بالجبال عن الرمال .. لا نبحث سوى عن مكان قبر ، ولو في مكان قفر من هذا الوطن .. نحن مجانين سنموت قهرا وليمت غيرنا بطرا ، المهم أن لا يموت فينا لسان ولا يمسح لنا سطرا !
.. سامحونا
Royal430@hotmail.com