أوروبا الشرقية في مواجهة الشركات الغربية
ليونيد بيرشيدسكي
14-02-2018 01:18 AM
ساعدت نظرة توماس بيكيتي، الخبير الاقتصادي البارز، لدول أوروبا الشرقية باعتبارها «مملوكة» لدول الجوار الأكثر ثراء في أوروبا الغربية، الأحزاب القومية في ذلك الجزء من العالم في إثبات ما يحدث من استعمار اقتصادي. مع ذلك من السهل تفنيد حجج بيكيتي بالطريقة التي يطرحها وهو ما يمثل مشكلة، لكنّ هناك حججاً أقوى يمكن طرحها.
استغل بيكيتي خلال الشهر الماضي مدونته على الصفحة الإلكترونية لصحيفة «لوموند» الفرنسية اليومية ذات التوجه اليساري، في القول إن عضوية الاتحاد الأوروبي ربما لم تكن مفيدة تماما بالنسبة لدول مثل بولندا والمجر وجمهورية التشيك وسلوفاكيا. وقارن بين صافي تدفق الأرباح خارج تلك الدول، والدخل من الممتلكات، وبين صافي التحويلات المالية من الاتحاد الأوروبي إليهم، ووجد أن التدفق النقدي خارج البلاد كان أكبر. كتب بيكيتي: «بطبيعة الحال قد يقول المرء إن الاستثمار الغربي قد أتاح زيادة إنتاجية اقتصادات الدول المعنية مما يعود بالنفع على الجميع. مع ذلك لم يفوّت قادة دول أوروبا الشرقية فرصة إلا ويأتون على ذكر أن المستثمرين يستغلون وضعهم القوي في الإبقاء على تدني الأجور، والحفاظ على هامش ربح كبير جدا».
على الجانب الآخر انتقد جولت دارفاس، الخبير الاقتصادي المجري، الذي يكتب لمركز أبحاث «بروغيل» في بروكسل، تلك المزاعم خلال الأسبوع الحالي، مشيرًا إلى أن منح التقارب المقدمة من الاتحاد الأوروبي تختلف من حيث المفهوم عن الاستثمار الأجنبي، الذي يحق للمستثمرين في إطاره توقع تحقيق عائدات. إلى جانب ذلك، لا يتجه التدفق إلى الخارج بالكامل نحو باقي دول الاتحاد الأوروبي، حيث يتساءل: «ما الذي يمكن معرفته من خلال المقارنة على سبيل المثال بين تحويلات الاتحاد الأوروبي إلى المجر وبين الأرباح التي تحققها شركات مجرية تابعة لشركة (سوزوكي) اليابانية أو شركة (هانكوك تايرز) من كوريا الجنوبية؟».
كذلك أشار دارفاس إلى دور الاستثمار الأجنبي المحوري والحيوي في الدفع باتجاه تحقيق النمو في المنطقة، وإلى الأوراق البحثية الكثيرة التي توضح أنه بعيدا عن الإبقاء على تدني الأجور، تدفع الشركات الأجنبية في أوروبا الشرقية أجور أكبر من التي يدفعها أصحاب العمل المحليون، ولديهم سجل أفضل فيما يتعلق بحقوق العاملين.
يتحدث كل من بيكيتي ودارفاس عن مشكلة حقيقية تواجهها اقتصادات دول أوروبا الشرقية. يوضح دارفاس على سبيل المثال أن 39 من 50 جهة من تلك التي تلقت مساعدات حكومية في جمهورية التشيك بين عامي 2000 و2017، كانت شركات أجنبية، ويرى أن ذلك دليل على أن سلطات التشيك تدرك قيمة وأهمية الاستثمارات الأجنبية في تحقيق التنمية الاقتصادية. مع ذلك قد يشير ذلك أيضا إلى وجود عمى في السياسات: ماذا لو أن الاعتماد على تدفق رأس المال الأجنبي إلى الداخل يضرّ أكثر مما ينفع في هذه المرحلة؟
يمكن أن تفسر السياسة الضريبية في دول أوروبا الشرقية ما ذكره بيكيتي عن التدفق الكبير للأرباح إلى الخارج، حيث يعتمدون جميعًا، باستثناء دولتين هما سلوفاكيا وجمهورية التشيك، بشكل أقل في المتوسط على ضرائب الشركات في تحقيق عائدات حكومية مقارنة بالدول الصناعية، والدول الأعضاء في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية. حتى سلوفاكيا وجمهورية التشيك تعتمدان بشكل أكبر من المتوسط على الضرائب الاستهلاكية.
على عكس ما يشير بيكيتي ضمنا، لا تهم الوجهة الجغرافية التي تصل إليها أرباح الشركات في النهاية بعد تسديد كل الضرائب؛ فقد يخفي ملياردير صاحب شركة ألمانية خاصة الأرباح في حساب استثماري في مكان ما خارج البلاد، أو قد يتم إعادة استثمارها في الشركة البولندية التابعة التي حققت تلك الأرباح من أي مكان، لكن المهم بالنسبة لبلد ما هو قدرته على دفع الضرائب المستحقة عن تلك الأرباح بشكل مقبول. لا تفرض دول أوروبا الشرقية عبئاً كبيراً على الشركات في إطار سعيها للتنافس على أن تكون وجهات للاستثمار الأجنبي. بالنظر إلى هيمنة الشركات الأجنبية، حيث يوضح بيكيتي أنها تمثل أكثر من نصف أصول الشركات في أوروبا الشرقية، ينتهي الحال بالأجانب إلى المساهمة بقدر أقل في إنشاء شبكات الأمان الاجتماعي، والبنية التحتية في أوروبا الشرقية مقارنة بمساهمتهم في ذلك في دولهم.
عوضا عن ذلك فإن السكان المحليين، الذين يحصلون بالفعل على أجور منخفضة نسبيا، هم من يجذبون الاستثمار إلى المنطقة، وإسهامهم أكبر من إسهام المقيمين في الدول الأكثر ثراء، وذلك في هيئة ضرائب استهلاكية.
يمثل الاستعمار الاقتصادي لدول أوروبا الشرقية مشكلة حقيقية، وإن لم يكن ذلك للأسباب التي يذكرها بيكيتي. الفجوة بين الضرائب التي كانت لتدفعها شركات أوروبا الغربية في بلدانها، وتلك المستحقة عليهم في أوروبا الشرقية، هي ما ينبغي مقارنته بمنح التقارب المقدمة من الاتحاد الأوروبي. يعد حسابها أصعب من حساب تدفق الأرباح إلى الخارج، ومن المرجح أن تكون أقل من المنح. مع ذلك من الطبيعي بالنسبة لدول أوروبا الشرقية أن تحاول استعادة قدر أكبر من أرباح الشركات الأجنبية، كما فعلت حكومة المجر من خلال فرض ضرائب خاصة على بعض الصناعات التي يهمين عليها الأجانب. كذلك فرضت حكومة بولندا ضرائب إضافية على القطاع المصرفي، الذي يهيمن عليه الأجانب، وحاولت القيام بالمثل مع سلاسل متاجر التجزئة الكبرى، لكن تصدى الاتحاد الأوروبي لتلك الخطوة.
يمكن لدول أوروبا الشرقية، بل وينبغي عليها، أن تكون أكثر عدائية في فرض الضرائب على الشركات الأجنبية التي باتوا يعتمدون عليها. نظراً للفجوة الكبيرة في الأجور بين دول أوروبا الشرقية ودول أوروبا الغربية، لن تسحب تلك الشركات استثماراتها، وربما سوف تتشجع على استثمار المزيد في الأنشطة ذات هامش ربح مرتفع تشغل في سلسلة القيمة مركز أعلى من مركز أكثر المشروعات التي يتم تنفيذها. إذا أرادت أوروبا الشرقية الاقتراب من مستوى دول أوروبا الغربية بخطى أسرع فيما يتعلق بالأجور، والمزايا الاجتماعية، فعليها أن تحفز الاستثمار المحلي والأجنبي في مجالات تعد إيجابيتها أكثر من سلبياتها. يتطلب ذلك تحولاً تدريجياً في السياسات، وهو أمر قد لا يعجب دول أوروبا الغربية، لكنهم قد يستفيدون، كما أشار بيكيتي، من تدفق الأرباح الكبيرة من تلك المنطقة، ومن شأن ذلك أن يخفف حدة الأمر ومرارته.
* بالاتفاق مع «بلومبيرغ»
الشرق الأوسط اللندنية