السلطة الخامسة أو عندما يفقد الإعلامي الثقة بمهنته
د. تيسير المشارقة
13-02-2018 02:09 PM
نحن شهود عيان على تحوّلات ضخمة طرأت في بنية وسائل الإعلام على المستوى العالمي. فعندما لم يعد للسلطات سيطرة أو هيمنة على المعلومات وهو ما أطلق عليه "أفول السيادة"، تكلل الأمر بظهور هائل لوسائل التواصل الإجتماعي(فيسبوك، تويتر، يوتيوب،...) وتشكُّل لـ "صحافة الفيديو" و"صحافة المواطن" ، وبروز لـ" الصحفي شاهد العيان"، و"الأحداث المفبركة" التي يصنعها دعائيون ورجال أعمال ومستشارو علاقات عامة.
وسائل الإعلام التقليدية التي سخر منها دونالد ترامب، والتي لم تعد هي المقررة في الحياة السياسية والعامة، تعاني الآن من أزمة وجودية و"أزمة ثقة". وانتصار (ترامب) في المعركة الإنتخابية بفضل التويتر سلّط الأضواء على التعثر الذي تعيشه وسائل الإعلام التقليدية المأسورة من أجهزة متعددة والتي أصبحت جزءاً من منظومة تحالفات أمنية وسياسية واقتصادية. إستقلالية وسائل الإعلام أصبح مشكوك بها ولم يعد الصحفي نزيها كما يُعتقد.
كثيرٌ من الإعلاميين حديثي التخرّج باتوا أيضاً على قناعة أن مهنتهم باتت حقلاً من الرمال المتحركة. ويشعر إعلاميون مُتمرسون بأن صناعة الإعلام صارت في دائرة الخطر. ونزح كثير من الصحافيين إلى الصحف الإلكترونية وصحافة الانترنت وشبكات التواصل الإجتماعي.. ولكنهم، وهم الذين تدربوا أو تعلموا أن الإعلام مهنة أخلاقية، باتوا يشعرون بأن مهنتهم تتعرض للإنتهاك وتقوم بترويج أخبار مفبركة يديرها "نشطاء في فبركة الأخبار" بطرق "لا مهنية"، وبالتالي بعيداً عن الأخلاق وأخلاقيات المهنة.
ماذا يحدث لمهنة الإعلام وصناعته عندما يحتل منابرها المارقون وغير المهرة مهنياً؟ ماذا سيحصل لعناصر الخبر (من ، متى، أين ، ماذا ، لماذا)، عندما يغيب مصدر المعلومات، وتصبح المعلومات هلامية في تدوينات واختصارات تويترية (من : تويتر) محدودة الكلمات ومعدودة الأحرف. المهنية في صناعة الأخبار التي تتناول الوقائع والأحداث غابت لصالح الدعائية والدعائي والدعاية التي هي أساس في الإعلام الحديث. ماذا تبقى من الإعلام؟
وسائط التواصل الإجتماعي ـ وهي وسائط متعددة ـ التي أصبحت هي المصدر الأساسي للمعلومات تنعدم فيها الثقة لوقوعها في فخ الفضفضة وسطوة التزوير والتحوير والدعاية. ماذا تبقى من الإعلام؟ ماذا تغيّر ؟ حريات الإعلام باتت في خطر، ووضع الإعلام سيء للغاية. الإستقطاب اللعين يجعل الإعلام مشتتاً في ورطة التجاذبات (الإقتصادية والسياسية ـ الأمنية والإجتماعية).
خبراء الإعلام يُحذرون ويقرعون ناقوس الخطر. وفي ظل رواج عدم الثقة بالمعلومات في وسائل التواصل الإجتماعي، يُحبذون العودة للوسائل التقليدية وهي الوسائل التي تموت موتاً سريعاً وسريرياً في العالم والبلدان العربية. هناك حالة نوستالجية بالحنين للماضي والقديم، وتمسُّك بـ "طقس الأسلاف" على اعتبار أن الماضي مُقدس والحاضر مُدنّس.
بتحليل مضامين وسائل الإعلام جميعها نشعر أن استقلالية الإعلام في خطر. وكما أن الصحافة التقليدية صارت في دائرة الخطر بحكم أدواتها المتقادمة أو "الدقة قديمة"، فإن وسائل الإعلام الحديثة تفقد المهنية والمصداقية والإستقلالية والموضوعية. إذاً، نحن نفقد الثقة بـ (السلطة الرابعة )برمّتها، وباتت وزارات الدفاع والسلطات الإقتصادية والأمنية والسياسية تهيْمن على سير أعمال وسائل الإعلام وهي التي تحدد اتجاهاته.
نحن بحاجة لولادة (سلطة خامسة) أكثر حرية واستقلالية وموضوعية ومصداقية. وفي ظل انحسار الكتاب وعدم الثقة بإمبراطورية الإنترنت، هل تكنولوجيا المعلومات المعاصرة والحديثة قادرة على صنع "إعلام جديد" قائم على الدقة والنزاهة والتحرّي والموضوعية؛ إعلام أقرب إلى الإعلام الموسوعي (الويكيبيديوي)الذي يتحرّى الدقة والأمانة والتوثيق العلمي مُتعدد المصادر.
يبقى السؤال الأخير مدويّاً، على عاتق من تقع مهمة خلق "إعلام جديد" يتمتع بالحرية والدقة والنزاهة والأمانة والعلموية والموضوعية والمصداقية والإستقلالية، بعيدا عن "تعارض المصالح" و" الانحياز"؟