الاهتمام العالمي بكوريا الشمالية يتزايد يوما بعد يوم، حتى أصبحت مادة خصبة للإعلام، فدائما ما نجد الصحافة العالمية تخصص حيزا كبيرا للأحداث والمستجدات المتعلقة بتلك الدولة، لاسيما حينما يتعلق الأمر بتصاعد حدة التوتر مع واشنطن.
قبيل رحيل مؤسس ورئيس كوريا الشمالية الأسبق كيم إيل سونغ، كان التوتر مع الولايات المتحدة في بداية تسعينات القرن المنصرم قد بلغ ذروته، الأمر الذي دفع الرئيس الكوري الشمالي آنذاك إلى فتح حوار مع كبار قادة جيشه، واستفساره عن مدى إمكانية تحقيق النصر على الولايات المتحدة في حال نشوب مواجهة مسلحة. تجاوز العسكريون ذلك الموقف حينما أجابوا بعفوية وتلقائية أنهم سيعملون على تحقيق النصر... لكن الزعيم الكوري فاجأهم بقوله: ماذا لو خسرناها؟
لم تكن هناك فطنة بالنسبة لقادة الجيش أكثر من التزامهم الصمت، حفاظا على استمرار حياتهم. لكن نجل إيل سونغ ووالد الزعيم الحالي الذي كان من بين الحاضرين، أجاب والده قائلًا (إذا خسرنا المواجهة علينا أن نكون جاهزين لتدمير الأرض! فماذا تساوي الأرض بدون كوريا الشمالية)؟
هل تستطيع الولايات المتحدة هزيمة كوريا الشمالية؟ البعض يعتقد إمكانية ذلك وبأقل الخسائر، لكن البعض الآخر يعتقد أن الأمر كان في متناول الأمريكان قبل عام 2006، أي قبل امتلاك كوريا الشمالية لأسلحة الدمار الشامل، وأن الوقت قد فات وأصبح متأخرا جدا، والفرصة الأمريكية لتحقيق ذلك اختفت وتلاشت، بعد أن استكملت بيونغ يانغ عدتها وعتادها النووي، بل تبدو متجهة نحو التوسع على الصعيد النووي رغم العقوبات والحصار الدوليين.
يتساءل الكثيرون حول شكل العقيدة أو المذهب أو الدين أو الايدولوجيا أو الفكر، الذي يدفع بكوريا الشمالية إلى تأسيس هذه القوة العسكرية الضاربة، وما إذا كانت من أجل نشر فكر أو مذهب معين. الحقيقة أنه لا توجد ايدولوجيا واضحة ولا تبشيرية لهذه الدولة، وليس لديها مشروع فكري أو ايدولوجي تسعى إلى نشره في العالم.
لكن حينما نتأمل الفكر السياسي السائد في كوريا الشمالية نجده يستند إلى أمرين، الأول هو الفكر الشيوعي الممزوج بالنظرية (الزوتشية) التي تعني الموقف المستقل، وهي عبارة عن موائمة ما بين الاشتراكية الأممية والقومية ضمن تركيبة يشوبها الكثير من المفارقات المدهشة. وحسب المعايير التقليدية السائدة، يمكن القول أن السواد الأعظم من السكان في كوريا الشمالية هم ملحدون، أو من أتباع العقيدة الزوتشية، حيث لا يسمح الدستور الكوري الشمالي بحرية الدين أو المعتقد.
أما الأمر الثاني فهو يستند إلى عقيدة عبادة الشخصية أو الأسرة الحاكمة، سواء تعلق الأمر بالحاكم الحالي أو الحاكم الأب أو الجد، وتصل مكانة هؤلاء إلى مرتبة مقدسة تحاكي وتماثل عبادة الأشخاص، وهذا التقديس إلى جانب الشيوعية الممزوجة بالفلسفة الزوتشية هما المكونان الأساسيان للعقيدة الكورية الشمالية.
يبلغ تعداد الجيش أكثر من مليون جندي، ويخصص للنفقات العسكرية أكثر من خمسة عشرة بالمائة من الناتج المحلي، واستمرار النظام يأتي في المقام الأول لدولة تعتمد العسكرة، من خلال دمج المجتمع بإجراءات مدروسة حتى الحيثيات البسيطة، وجعله دائما في حالة الجاهزية القتالية، باعتبارها دولة قائمة على الأيدولوجية العسكرية، وتتغلغل الروح العسكرية عمليا في كافة مناحي الحياة.
يبدو أن مسلسل الغموض المحيط بكوريا الشمالية لن يتوقف، وسيناريوهات الحرب العالمية الثالثة تتجدد كلما أقدمت بيونغ يانغ على إجراء تجربة صاروخية جديدة، ورغم أن الشعب الكوري الشمالي يعيش حالة ترقب دائم، وأصبح كل شيء لديهم محسوب بدقة، وكل الأمور تحت الرقابة، إلا أن الدولة ما زالت تبدو رقما صعبا في التفكير الأمريكي، خاصة أنها استوعبت الدروس جيدا وهي تراقب ما يجري في منطقة الشرق الأوسط، ومصير الدول التي تخلت أو لم تسعى لتحديث ترسانتها العسكرية.