لا أحد يقف في وجه الحالة الوطنية التي تُشعل الشوارع ومنصات التواصل بالهتافات والاحتجاجات السلمية. إذا كان من حق الناس أن يسألوا عن سعر الخبز وعن سلع أساسية على مائدة الأردنيين، فإن من حق الوطن عليهم أن يتبينوا، وأن من حق أبنائنا قبل هذه وبعده، أن لا يُجبروا على الاختيار بين وطن كامل البهاء والحضور وبين خيمة في صحراء.
لقد عبر الأردنيون مفازة الربيع العربي بالوعي الكبير وبالقاعدة السليمة بأن النوم على الجوع آمنا مطمئنا خير من النوم واليد على قبضة السلاح خوفا وقلقا.
وليس في وارد كل الذين شربوا من ماء هذا الوطن التفكير بمجرد التخلي عنه، كيف وقد أسّس أجدادهم قواعد عظيمة من نكران الذات والبطولة.
سيعود هذا الوطن كما كان صادق الموقف ومخلص النوايا، بذات الوعي وذات الصمود، وستمضي إلى اتجاهاتها المختلفة، كل السحب التي تحاول أن تحجب شمسه الساطعة.
لا أدافع عن أحد هنا، ومؤكد أن هناك مبرر صادق ومقنع لمن خرج ويخرج، وكلُّ هتاف يُسمع صدى الجوع والفقر والبطالة مقبولٌ ولا شرط عليه في حدود ما عرفناه عن شعبنا الكبير في كل شيء حتى في صبره، لكن شرطه المقدس أن لا يكون فاتحة بدء لا نحسد عليها من الفتنة والتخريب، وغير مسموح أبدا، أن نسير بالوطن نحو الهاوية، والحكومة والشعب سيّان في هذا التحذير.
في مقابل الصمت الحكومي المثير للجدل عن أسباب مقنعة ومبررة لارتفاعٍ مكلف لسلع أساسية، كان المناخ مناسبا لخروج الناس إلى الشارع، وهذا الخروج السلمي الحضاري المتقدم هو حقٌ كفله الدستور ولا ينبغي لأي كان أن يسلبه أو يعطّله.
وحده معالي الدكتور ممدوح العبادي من خرج علينا ببعض الأسباب التي دفعت الحكومة لمثل هذه القرارات. وأياً كانت الأسباب، فمن غير المنطق أن تكون جيوب الناس هي المخرج الوحيد لها، والناس على اختلاف مستويات معيشتهم، يربطون على البطون حين يتعلق الأمر بالكرامة وبالمساومة على ثوابت ومبادئ، لكنهم يطلبون كذلك بأن تربط الحكومة على بطون 65 هيئة مستقلة وعلى نفقات باذخة ورفاهية غير ممكنة في هذا الظرف العصيب.
على المتصدين للعمل العام أن يقرؤوا تاريخ الدول جيدا، وعليهم أن يروا كيف خرجت دولٌ كثيرة من عنق الزجاجة الاقتصادي، وعادت إلى نمو اقتصادي حقيقي، لكن جيوب الناس لم تكن الوسيلة الوحيدة في ذلك، والأهم من كلَ هذا وذاك، أن يدرك هؤلاء أن الوطن الذي أنجب شهداءً ومشاريع شهداء، هو وطن الجميع، وأن الذين وقفوا مع الأمن في اربد والكرك وفي كل مكان، هم أنفسهم الذين تعلو أصواتهم حين يصل الأمر الى خبزهم وكفافهم.
بقي شيء مهم، يعرفه الناس ويحذّر منه عقلاؤهم، ثمة مناورات مشبوهة على وسائل التواصل الاجتماعي، وثمة عشرات الآلاف من الحسابات الوهمية على الفيس بوك، تنكأ في جراح هذا الوطن وتعيد نشر صفحات وصور ومقاطع فيديو قديمة ومزورة، وثمة من يدخل في احتجاج سلمي شرعي ويطلق يد غدره، ثمة من يدخل في زفة أعراسنا ويهتف مسيئا، ثمة من يصادر كلمتنا الوطنية الصادقة وموقفنا الثابت ودماء شهدائنا وجوعنا وصبرنا، ليعيد انتاج أجندته ويُدخلها موقع التنفيذ على واجهة الشعب الصادق الموقف الواضح التاريخ، فلنخرج كل هؤلاء من بيننا، ولتبق هتافاتنا وشعاراتنا كما كانت دوما، قاعدتها الأولى هتاف شهدائنا في القدس والكرامة، وإن عطشت وكان الماء ممتنعاً، فلتشرب من دموع العين يا وطني....