الذين قالوا أنّ المعارضة أسهلُ من «الموالاة» أو تأييد أنظمة الحكم، كانوا على حق، فالأخيرة تستوجب اقتراح أشكال جديدة لتسويغ الحكم وممارساته، أو التبرير المنطقي لهفواته وإخفاقاته. كما تتوخى المشارَكة في الحكم التغيير التدريجيّ الذي لا يمكن أن يغدو صيرورة مشتهاة في رمشة عين. لكنّ المعارضة لا تتنكّب عناء هذا الهمّ، فتبحث عن المثالب والسلبيات، وما أكثرها، لتنفذ منها موجهّة ضربات موجعة إلى خصومها، وقد يحدث أن يكون المعارض الراهن الذي يرغي ويزبد، عضواً سابقاً في مؤسّسات الحكم، وربما يكون قد فشل فيما يطالب بإقراره وتنفيذه هذا المعارضُ الذي يحمل لقب «معالي» أو «سعادة» أو «سيادة» أو «عطوفة»!
ولا ريب في أنّ العالم العربي أخفق، إلى حد بعيد، في إنتاج «حكومات ظل» تتولى فيها المعارضة خلق معادل حقيقي للحكومة، فيكون لدى الأولى خبراء ومراكز أبحاث ومراصد لكشف التجاوزات في الحقول المختلفة، ويكون لديها أيضاً رقابة على الأداء العام للحكومة، بما يجعلها قمينة باسم «ظل»، فتصبح ظلاً للحكومة يتبعها أينما يمّمت أو ولّت وجهتها. هكذا، يصبح تداول السلطة فعّالاً ومنتجاً، حتى ليشعر الذي في الحكم بأنه مثقل بالتزامات لا مجال أمامه سوى تنفيذها على أكمل وجه، فالعيون ترقب أداءه، وتقف له في المرصاد.
وتكون حكومات الظل مختصّة بنقدها لأداء الحكومة، ولديها وزراء مختصّون يناظرون زملاءهم في الحكم، ويعملون على تقديم تصوراتهم البديلة للحكومة والشعب في آن واحد، فالرهان هنا لا ينصبّ على تسديد الأهداف، أو تسجيل المواقف الشعبوية، بل يتوجه إلى تصويب السياسات وتقويمها، ونيل ثقة الناخبين في الجولات اللاحقة على أساس البرامج والتصوّرات الأنجع في الحكم. وثمة دول عدة أثمرت نتائج خلابة في هذا المضمار، مثل بريطانيا وأميركا وفرنسا وإيطاليا وأستراليا واليابان ورومانيا وجنوب أفريقيا وسواها.
ويبدو العالم العربي بعيداً من هذه التقاليد الديموقراطية العريقة، فالطرف الذي لا يفوز في الانتخابات، إن أجريت انتخابات، يلجأ إلى العنف والاحتراب، فيُخرج ما في خزائنه وسراديبه من أسلحة، ويذهب إلى تدمير الطرف الآخر، ولا بأس في تدمير الدولة، فإما أن أفوز وأحكم، وإما الطوفان، ولتذهب الديموقراطية وصناديق الاقتراع إلى الجحيم.
ولو أردنا التخفّف من هذا الخيار القاسي، وذهبنا إلى الخيارات البديلة من حكومات الظل في العالم العربي، فإننا بإزاء أشخاص مبعثرين كانوا في الحكم لا يجيدون التكتل، وأمامهم خياران لا ثالث لهما: إما الصمت، جُبناً، أو طمعاً في العودة إلى الموقع الحكومي، وإما المعارضة العدميّة التي تترصّد الأخطاء وحسب، فتعظّمها بغية شيطنة الحكومة وتقويض سياساتها. ويلجأ المعارض، وهو في ذلك يمارس انتهازية مكشوفة، إلى الاعتصام بالمطالب الشعبية، ويركّز طبعاً على الأخطار المحدقة بجيوب المواطنين التي استنزفتها، كما يزعم، الحكومة الغاشمة بالضرائب وارتفاع الأسعار، وتدمير الاقتصاد ومعه الكرامة الوطنية!
ولو ترك المراقب هذه الفئة من الحكوميين السابقين الذين ركبوا موجة المعارضة، ونظر إلى برامج الأحزاب أو منظمات المجتمع المدني، أو حركة الأفراد الاعتباريين أو المواطنين العاديين في الحيّز العام، لوجد أنّ الأمر لا يختلف كثيراً. الجميع منخرط في جوقة الشكوى والتبرّم، وفي توزيع الاتهامات، حتى لو كانت مؤسّسة على إشاعات وفبركات. المهم أن يظل الصوت عالياً، والزبد مقيماً على أطراف الشفتين، ليقين مستحكم لدى هؤلاء بأنّ الناس يعشقون الصوت العالي، ويستلذون بالمعارضة التي تضرب الحكومة حتى الإيلام. فالإيلام يطهّر، سواء توجّه إلى الآخر أو إلى النفس، ويبعث أحياناً على الغبطة، لكنها غبطة مفخّخة سرعان ما تتكشف عن جروح وقروح وخديعة!