لم يعرف ألبير كامو والده، الذي قتل جندياً في حرب 1914 قبل أن يكمل عامه الأول. ونشأ يتيماً في أحد أفقر أحياء مدينة الجزائر، فيما كانت أمه تعمل شغالة في البيوت. ربي في الفقر، لا في البؤس، كما قال، أما البؤس، فكان ما يراه عند أترابه الجزائريين. أما السعادة فكانت تأتيه وافرة من الشمس والبحر. وذروة القصة ليست غياب الأب عن الطفولة، بل حضور الأم الحزين: امرأة متعبة ومصابة بمرض التوحد، قليلة الكلام و«لا تعرف الكثير منه في أي حال».
صدر كتاب «الرجل الأول» بعد وفاة كامو، الذي توفي في حادث سيارة قبل وفاة أمه بأشهر قليلة. عاشت في صمتها و«مدار عزلتها» لكي تراه يفوز بنوبل الآداب، ثم يُقتل وهو شاب تحتفي به فرنسا والأدب العالمي. لم يكتب «الرجل الأول» على شكل سيرة ذاتية، بل رواية بطلها جاك كرومري، لكن لم يترك شكاً في ذهن أحد أنه يكتب عن أمه.
حين بلغ عتبة الباب فتحت له أمه ورمت نفسها بين ساعديه. وكما تفعل كلما اجتمعا، قبلته مرتين وثلاثاً، وهي تشدّه إليها بكل ما تملك من عزم، فأحس في ساعديه وقع عظامها ونتوءات كتفيها.
قالت «ابني، كنتَ بعيداً جداً». وأقفلت عائدة بسرعة إلى الشقة وأخذت مقعداً لها في غرفة الطعام المواجهة للشارع العام؛ لم تعد تفكر فيه، هكذا بدا، بل كانت تختلس النظر إليه بين الحين والآخر، وعلى وجهها تعابير زمن مضى، كأنما تراءى، له، أنه في الطريق لأن يفسد عليها عالم عزلتها الذي بنته حول نفسها. لقد بدا له وهو يجلس بقربها أن شيئا ما يقلقها، فأدارت وجهها نحو الشارع بكثير من الرومانسية والغنج، ولتعود إلى جاك وفي عينيها شيء من الدفء والسلام.
كان الشارع قد غدا أكثر ضجيجاً وحركة حافلات الركاب أكثر كثافة. راقب كرومري والدته في ثوبها الرمادي وفوقه وشاح أبيض، متجمدة فوق الكرسي غير المريح نفسه قرب النافذة، وحيث تجلس دائماً، فيما تقوّس ظهرها بعض الشيء بفعل العمر. هي الآن كما كانت قبل ثلاثين سنة، ورغم بعض التجاعيد فلا تزال تحتفظ بذلك الوجه القديم الساحر.
تتكرر الأم الصامتة في جميع مؤلفات كامو منذ عمله الأول. ثم تظهر صامتة وحزينة في «الغريب»، وتطل بصمتها في «الطاعون» التي نال عليها نوبل، لكن الحنان بينها وبين ابنها لا حاجة إلى تعبير. أما جاك كرومري في «الرجل الأول»، فيعبر عن مشاعره بألف طريقة، ثم يخترق صمتها هاتفاً بكل سعادة: «إنها تحبني، إنها تحبني».
الشرق الأوسط