هو اسم المدرسة التي قضيت فيها سنوات «الإعدادية» الثلاث في مخيم الوحدات، بعضهم كان يضيف كلمة «للبنين» في نهاية الاسم، غير مكتف بكلمة «ذكور» في بدايته، في تأكيد مفرط على «ذكوريتنا» ... مدارس البنات غير البعيدة، كانت تسمى «إناث مخيم عمان»، ولكثرة عدد المدارس، ونظام الدوامين (صباحي – مسائي) فقد كانت المدارس تتميز بأرقامها، وأحسب أن مدرستي كانت «الثانية»، رغم أنني غير متأكد تماماً من حكاية «الترقيم» هذه.
لم نعتد في تلك الحقبة، على استقبال طلبة وافدين، المدارس مخصصة في الأصل، لأبناء اللاجئين وأحفادهم، ومخيم الوحدات، يتوفر على أعداد غفيرة ممن هم في سن الدارسة، وتعليم الأبناء، كان مسألة «حياة أو موت» بالنسبة للأسرة اللاجئة، التي نظرت بالفطرة إلى التعليم، بوصفه «أرض الفلسطيني إلى أن تتحرر أرضه»، وسلاحه الوحيد الذي به سيشق عنان السماء، والجناحين الذين سيحلق بهما لاحقاً على ارتفاعات شاهقة ... هكذا كانت النظرة للتعليم في تلك الأزمنة التي تبدو غابرة.
إلى أن حط بيننا ذات يوم، طالبان من «قماشة» مختلفة تماماً ... فهما «أبيضان» ونحن لفحتنا الشمس إلى الحد الذي لم نعد نتعرف فيه على لون بشرتنا الأصلية، وتركت بقعاً ودرجات لونية مختلفة على وجوهنا، كانت تبدو مثيرة للضحك والسخرية ... الأول، كان «حاتم سعد الدين حسن تقي الدين اسطنبولي»، وأجدني أحفظ اسمه خمسة مقاطع حتى اليوم، ومنذ اليوم الأول لجلوسه على مقعده في الصف المكتظ بالتلاميذ قبل قرابة الخمسين عاماً.
لم تكن بشرته البيضاء، هي علامة الاختلاف الوحيدة التي ميّزت حاتم عنا، فقميصه الأبيض كان بدوره علامة فارقة أخرى، وهو لون غير مألوف في تلك الأزمة، فهو يتسخ سريعاً، ولا قدرة لأمهاتنا على الغسيل يومياً، وهيهات أن يتمكن الواحد منا، من اقتناء أكثر من قميصين أو ثلاثة قمصان ... استفز الأبيض النظيف طلبة في الصف، فأوعز أحد «قبضاياته» إلى من يهمه الأمر باتخاذ اللازم، ليعود حاتم إلى منزل ذويه، الذي سنعرف لاحقاً أنه في «شارع خرفان»، بقميص مجلل بالأحبار من كل لون.
لم يطل المقام بزميلنا الجديد في «ذكور مخيم عمان الثانية»، استشهد أخوه في غارة إسرائيلية على أحد معسكرات المقاومة الفلسطينية في جبال السلط، فتغيرت نظرتنا لحاتم، وبات صديقاً للجميع، قبل أن ننتدب وفداً «رفيعاً» من الصف، كنت على رأسه، لزيارة منزل العزاء في شارع خرفان، لتقديم واجب التعازي بالفقيد. قصص حاتم وشروحاته عن أخيه، كانت ملهمة لكثيرين منا، حتى أن بعضنا تمنى لو يُستشهد أحدٌ من إخوانه ليحظى بالشرف ذاته، ولا أذكر أن تمنى أحدنا أن يُستَشهد بنفسه. أصدقكم القول، أن شارع خرفان، بدا لنا في تلك الفترة، جنة الله على الأرض، سكانه تتوزعهم بنايات متعددة الطبقات، وبقالات ليست كالتي في حراتنا، قبل أن يتحول إلى مأوى للعمالة الأسيوية الوافدة، وغالباً غير الشرعية.
غادر حاتم المدرسة، قبل أن تغادر عائلته الأردن إلى سوريا، لتلتقي طرقنا بعد سنوات طوال، كطلبة شباب يساريين، انخرطوا في غمار الحركة الشيوعية العربية، قبل أن ينتهي بهم المطاف في اليسار الفلسطيني، والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين على نحو خاص ... صديقي القديم حاتم، ما زال ناشطاً، وهو يواظب على الكتابة في صحيفة «نداء الوطن» التي يصدرها حزب الوحدة الشعبية الأردني.
الوافد الثاني، ذو البشرة البيضاء أيضاً، جواد أنور عرفات البشيتي، كان قد أبعد للتو من القدس، بعد أن نفذ في عمر «الطفولة» وصديقه رياض جابر،عملية فدائية ضد مقر الحاكم العسكري الإسرائيلي في فندق «الامبسادور» في المدينة، جواد أصيب بجراح، فيما صديقه رياض، الذي يكبره سناً بعامين، استشهد في العملية ... قبل أن يأتينا إلى المدرسة، كان جواد قد زار مصر، بدعوة من رئيسها جمال عبد الناصر، وهناك تلقى استقبالاً باهراً ... وتوفرت لديه حصيلة مدهشة من القصص التي لم يتوقف عن روايتها لنا، كانت بالنسبة لنا، ضرباً من الخيال الملهم ... جواد، كان قارئاً نهماً، وقد أثار زوبعة من النقاشات الفلسفية المبكرة؛ ما أثار شغف عدد منا.
سنُكمل، جواد وأنا، المرحلة الإعدادية في المدرسة ذاته، وعلى المقعد ذاته، قبل أن نذهب في اختصاصين مختلفين في المرحلة الثانوية، علمي وأدبي، لكن ستستمر علاقاتنا لسنوات وعقود لاحقة، وتتنقل بين بيروت ودمشق وقبرص، وبعد العودة إلى عمان، سيكتب في «العرب اليوم» منذ صدورها إلى أن أغلقت، وتأخذنا الأيام ويومياتها المزدحمة بعد ذلك، في سبل متباعدة.
كان الأستاذ، طيب الذكر، فتحي الحلو، مدرساً للرياضيات في «ذكور مخيم عمان الثانية»، لاحظ اهتماماتنا غير المألوف في هذه المرحلة العمرية المبكرة، فانخرط معنا بنقاشات وحوارات فلسفية، قبل أن ندرك أن الرجل يشغل موقعاً قيادياً في الحزب الشيوعي الأردني، لم نكن في حينها نسمع عن «المنهج الخفي» أو «المنهاج الموازي»، رغم أن معظم المدرسين، كانوا ينتمون إلى تيارات سياسية وفكرية، وأغلبهم انخرط في فصائل المقاومة، وكانت المدرسة بمثابة معسكر إعداد وتحضير للنشء، من دون أن يكون ذلك على حساب «المنهاج» والتعليم، فقد كان هؤلاء يؤمنون أيضاً بأن «سلاح اللاجئ شهادته».... وأذكر أننا خرجنا بتحريض من مدرسينا، ونحن بالكاد بلغنا العاشرة من أعمارنا، لقطع الطريق على موكب الرئيس التونسي الراحل الحبيب بورقيبة، الذي كان سيمر على مقربة من مدارسنا ... وقفنا بالشارع نهتف «أبو رقيبة يا منجوس بعت الوطن بالفلوس»، قبل أن تفرقنا الشرطة ونلوذ إلى أزقة المخيم وحاراته الضيقة... وأذكر أيضاً، أننا حفظنا عن ظهر، وفي سن مبكرة، نشيد الثورة الجزائرية: «قسماً بالنازلات الماحقات»، وقد كان مدرسون كثر، يحرصون على أن نصدح به، قبل دخول الغرف الصفية.
انخرطنا في صفوف الحزب الشيوعي، قبل أن نعرف أن فتحي الحلو ينتمي لـ «الكادر اللينيني» المنشق عن الحزب الأم، وقد احتاجت عضويتنا لقرار استثنائي بفعل صغر سننا، إذ بالكاد كنا أكملنا الخمسة عشر عاماً ... ومع «غوصنا» في قراءة الأدبيات الحزبية، تبين لنا أن هناك حزباً آخر، فبدأنا مسيرة البحث والتنقيب في قضايا الخلاف بين الحزبين، قبل أن تتوسع معارفنا إثر «التنبيش» في قضايا الخلاف في الحزب الشيوعي السوري، وتدخل «الرفيق» يفغيني بريماكوف لحسم الجدل فكرياً ونظرياً، فنقرر الاستقالة من «الكادر» والانخراط في صفوف «الزغابة»، و»الزغابة» من «زغب»، اسم حركي أطلقته جماعة «الكادر» على الحزب الأم، باعتبار أن الزغب سيتساقط تلقائياً، عندما يشتد عضد المولود الجديد، الكادر، ويقف على قدميه.
لم يشفع لنا، جواد وأنا، أننا كنا رفاق فتحي الحلو في الحزب، وأنه كان مسؤولاً مباشراً عنا، إلى أن اعتقل بعد أحداث أيلول 1970، وترك الحزب مكرهاً على استنكاره والبراءة منه، فقد كان يعاملنا بقسوة، ولا يغفر لنا الأخطاء التي يغفرها عادة لزملائنا، من نوع التأخر دقيقتين بعد «الفرصة»... كان يخرج من جيبه «حصاة» صغيرة، يضعها تحت»أرنبة الأذن»، ويبدأ بفركها بقوة، إلى أن تبدأ حبات الدم بالتساقط ... فتحي الحلو كان بداية طريق العمل السياسي/ الحزبي المنظم، أما الضرب والتعنيف في المدرسة، فقد كانا بديهيين، لا يجادل فيهما أحد، ولطالما انحاز الأهل إلى جانب المدرس، بل وطالبوه بمزيد من الشدّة على أبنائهم الصغار، حتى يصنع منهم رجالاً كبارا، قادرين على تحمل أعباء المستقبل المجهول الذي ينتظرهم، وإلى اللقاء يوم الجمعة القادمة، في صفحة جديدة من الذكريات.
الدستور