العولمة .. ساسة بلا عقائد واقتصادات في الهواء!
شحاده أبو بقر
15-03-2009 12:43 PM
كل العالم يعاني اليوم ، الكبار والصغار يعانون ، الاثرياء والفقراء يعانون ، والمعاناة "وكل يعاني على قدره" ، سياسية بامتياز ، اجتماعية بامتياز ، واقتصادية بامتياز ايضا ، ولذلك اسبابه الجوهرية بالضرورة ، وهي اسباب لا بد مرتبطة بطبيعة النمط الاقتصادي والاجتماعي والسياسي الذي يتخذ العالم منه اليوم منهج حياة !!.
هذا امر جد كبير وجد خطير ويحتاج الى مؤسسات تحلل وتدرس وتقرر ، فما هي الاسباب والمسببات التي آلت بالعالم الى ما هو فيه من ضنك وضيق وأزمة ، وعلى نحو جعل كل شيء معروضا للبيع ، حيث تفوق معاناة الكبار والاثرياء تحديدا معاناة الصغار والفقراء الذين لا يجدون ماديا ما يمكن ان يجعلهم قلقين كثيرا ، لا بل فان مصائب الكبار هونت من مصائبهم .
حال العالم اليوم يثير الشفقة ويدعو للتساؤل عن الاسباب التي أدت بقوى اقتصادية عظمى الى التهاوي تباعا وفجأة دون انذار ، ومرة اخرى فلا بد من ان يكون ذلك مرتبطا بالمنهج السياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي يعيشه الناس على هذا الكوكب ، وهو منهج جاء على شكل "طفرة" رافقت العصر الحديث " عصر العولمة " بكل ما نجم عنه من الغاء للحواجز بين الاقطار وتوحيد للتشريعات واستجابة للوصفات وسرعة مذهلة في اجتياز المسافات وتنفيذ للمشروعات الفعلية والوهمية على حد سواء ، وبصورة أغرت السواد الاعظم من الساسة ورجال المال و الاعمال ، ودفعت بهم الى المغامرة طلبا للثراء في طول الكوكب وعرضه!.
وبعد:
عندما يكون الفرد بلا عقيدة فهو تماما بلا هدف ، وهو شجر بلا ثمر ، ومظهر بلا مضمون ، والعقيدة – وهكذا هي الحياة – شرط اساس لاكتمال انسانية الانسان ، والعقيدة ايا كان نوعها " وافضلها عقيدة التوحيد " هي المبرر الاقوى للوجود ، وهي السبب المباشر لاستمرار الامل ، وفعلا ما أضيق العيش لولا فسحة الامل ! ، والعقيدة او المعتقد .. يأخذ مداه الاوسع والاصدق والاكثر واقعية عندما يكون ايمانيا ، والايمان يأخذ قدره الاعظم ومضمونه الاكرم ، عندما يكون ايمانا بوحدانية الله جل وعلا ، وهنا ندعو لاستعراض سيرة المذاهب السياسية عبر العصور لنرى كيف انها وقفت جميعا عاجزة دون ان توفر للانسان قدرا من حياة حرة كريمة ، لا بل فقد فاقمت معاناته جراء الحروب والنكبات والصراع على المغانم والمكاسب والمناصب وامتلاك اكبر قدر من القدرات المادية .
انحسار العقائد اوجد مشكلة عالمية كبرى ، خاصة في ظل " العولمة " حيث لا حدود ولا حواجز ولا حتى مسافات ، امام سطوة التكنولوجيا ومخرجاتها وما اشاعته العولمة من اوهام لعل من ابرزها تلك الاقتصادات المعلقة في الهواء ، فالفرد يمكن ان يصبح ثريا في لحظه ، وليس شرطا ان يتعب كثيرا لتحقيق ذلك ، والفلاحة صارت استثمارا سريعا ، وصارت زراعة الزهور اولوية ومصدر ثراء اكثر من زراعة " القمح " نفسه ، لا بل فقد دخل الفلاح في رهان مع الله جلت قدرته ، فهو ينتظر نزول المطر كي يبذر ، خلافا لما اعتاد عليه الناس عندما كان الفلاح يبذر في مستهل الموسم واثقا من ان الله لن يخذله ، اما اليوم فهو يمسك عن البذر محتفظا ببذاره في مستودعه الى ان ينزل المطر ، فان امطرت بذر ، وان حبست حبس ، وصار المال لا الغلال هو مؤشر الخصب والجدب ! ولا حول ولا قوة الا بالله ، وباتت الارقام المجردة هي الواقع الاقتصادي في سائر البلدان ، وتبدلت انماط البناء في الشرق تحديدا لتصبح محاكاة لذلك النمط الغربي القائم على معادلة الزجاج والاسمنت ، وسوى ذلك من ادوات البناء الحديث ، ومن يتجول في عمان مثلا يلمس هذا التحول الجديد الذي " يسرق " من عمان العزيزة وجهها التقليدي الذي تميزت به عن سائر مدن الارض ، وتلك هي مسؤولية القائمين على الامر!، واصبحت تجارة الخدمات السريعة هي العمود الفقري لاقتصاديات الدول النامية ، عوضا عن التعدين والحفر في باطن الارض وفي مناكبها مصداقا لقوله تعالى " واسعوا في مناكبها " ، ودخلت قواميسنا التقليدية مفردات ومصطلحات اقتصادية جديدة ، تتتحدث عن اقتصاد السوق ، والتجارة العالمية ، والاستثمار وما الى ذلك من قيم مستحدثة تزيد الاثرياء ثراء والفقراء فقرا ، وانطبق قول "محمد صلوات الله وسلامه عليه "على بعض التجار بأن صاروا فجارا ولم يبروا ولم يصدقوا ، فانحسرت مبررات الغلاء بوضوح ، وثبتت اسعارهم عند حدودها العليا ان لم تزد ، ولنا في الاردن مثال ساطع على حال كهذا ، عندما تعمد الحكومات الى تخفيض اسعار المواد الاولية والمشغلة للانتاج ، ولا يستجيب معظم التجار بل يواصلون رفع الاسعار !.
هي اذن العقائد المستحدثة ، وما هي بعقائد حقيقية ، عندما يفقد الفرد خصائصة كانسان ، فبدلا من ان يكون الانسان قائدا للتطور ، بات لاهثا خلف التطور ، وبتنا نتحدث عن انحسار الايدلوجيا في منظومة المسار الحزبي العالمي بأسره ، لتحل بدلا منها منظومة الاحزاب البرامجية الليبرالية المجردة، وهنا تتجسد حالة انعدام المعتقد ، بدلا من البحث عن معتقد يخلف عصر الايدلوجيا السياسية ، وهو عصر بدأ بالانهيار كاملا بمجرد انهيار المدد الشيوعي في هذا العالم !.
وهي العولمة اذن ، لا مجال فيها لايدلوجيا يجري اليوم تحميلها وزر التخلف الذي شهده بعض العالم عبر قرون قليلة مضت ، ولا لعقيدة سياسية اخرى غير العولمة تحديدا ، وهنا جاءت نذر الانهيار الجديد الذي يبشرنا خبراء الاقتصاد بانه لن يستمر طويلا ، وهم ذاتهم الخبراء الذين لم يبادر احد منهم الى توجيه ولو انذار بسيط بامكانية حدوث ذلك الانهيار ، وتلك هي مسؤوليتهم جميعا ، وبخاصة عرابو العولمة وفي طليعتهم البنك الدولي وصندوق النقد الدولي على وجه التحديد!.
من جديد لا بد للانسان وايا كان موقعه من "عقيدة " ، فهي سبيله الى الطريق القويم خاصة ان كانت عقيدة التوحيد والايمان بالله العلي القدير جلت قدرته ، وهي عقيدة تحرم بناء الاوهام على انها ارقام ، وتشترط للتعامل بين الناس ان يكون تعاملا صريحا وصحيحا وملموسا لا مجرد حبر على ورق !.
والساسة على وجه الخصوص ، هم المطالبون اكثر من سواهم باجراء المقارنة بين اقتصاد وهمي يمكن ان ينهار في لحظه ، واقتصاد حقيقي يمكن ان ينهار نتيجة اخطاء ملموسة ، ولكن في دهر لا في ثانية ، والساسة على وجه الخصوص كذلك ، مطالبون اكثر من سواهم ، باجراء المقارنة السياسية بين نشاط عام يجري وفقا لعقيدة ايمانية راشدة ، ونشاط عام يجري وفقا لاهواء آدميه تحتمل الخطأ والصواب وتبقى مهما تجبرت مجرد اهواء لا ثبات فيها ابدا .
ختاما : العولمة تنتج ساسة بلا عقائد واقتصادات في الهواء ، وذلك واقع ينتج دمارا للحياة ومعاناة للبشر ، والله من وراء القصد .
She_abubakar@yahoo.com