محمد حسنين هيكل .. والعودة لزمن الردح
15-03-2009 04:04 AM
كنا نظن ان زمن الردح العربي ، وبالاخص سيمفونية اعلام الخمسينات والستينات ، التي صنفت العرب الى رجعيين وتقدميين ، شرفاء وخونة ، قد انتهت الى غير رجعة ، بعد ان بدأ تلاشيها عقب حرب حزيران 1967 ، تلك الهزيمة التي كانت ثمرة طبيعية لحالة الفرز الظالمة هذه ، خاصة ان الرئيس الراحل جمال عبد الناصر ، كان اول من تخلى عنها ، فلم يعد يمارس الهجوم على الزعماء العرب الاخرين ، كما اعتدنا سماع ذلك في خطاباته قبل حزيران ، بل سعى بكل جدية الى تعزيز وحدة الموقف العربي ، وجمع العرب لازالة اثار العدوان ، فكانت اكبر دولة رجعية ، حسب تصنيفات تلك المرحلة ، وهي المملكة العربية السعودية ، هي اكثر من قدم الدعم لدول المواجهة ، واثبت الملك فيصل لاحقا صدق انتمائه القومي ، في الفترة التي اعقبت حرب تشرين عام 1973 ، حين اوقف تدفق النفط الى الغرب ، وجعل من سلاح النفط ، سلاحا قوميا في معركة التصدي لاثار العدوان ، وتحرير الارض المحتلة ، وقال قولته المشهورة لكيسنجر "انه مستعد لاحراق ابار النفط ، والعودة الى الابل والتمر ، في سبيل الحق العربي" ، فكان ان دفع حياته ثمنا لهذا الموقف القومي المشرف .
ولم تتلاشى هذه السيمفونية الاعلامية تماما ، الا بعد الحركة التصحيحية في سوريا عام 1970 ، التي قادها الرئيس الراحل حافظ الاسد ، الذي كان اكبر عاشق للتضامن العربي ، فرفع شعار التضامن لكل العرب ، "رجعيين" و "تقدميين" ، وتوقفت الترهات الاعلامية ضد الاشقاء ، فكانت قبضة يديه وهي متشابكة معا ، ومرفوعة للتحية في كل المناسبات ، هي شعار هذا التضامن الذي جعل له حضورا مميزا ، فاقام علاقات اخوة مع كل العرب ، وسار في خطوات وحدوية ، لم يكتب لها الاستمرارية مع الاسف ، مع اقطار عربية ، سواء كانت "تقدمية" او "رجعية" ، لا فرق بينهما امام هدف الوحدة ، فاصبحت الوحدة هي الهدف ، فليس هناك وحدة رجعيين او وحدة تقدميين ، وكلنا يتذكر الخطوات الوحدوية التي ابهجت شعبنا في سوريا والاردن .
لقد اثمر شعار التضامن العربي ، الذي رفعته سوريا بعد الحركة التصحيحية ، بعد توقف مصر قبلها بسنوات عن عزف سيمفونية التمزق ، اثمر انتصارات حرب تشرين التحريرية ، وحالة التضامن القومي مع دول المواجهة ، واستخدام سلاح النفط ، كسلاح قومي في معركة الامة العربية ، لقد تحققت في تلك المرحلة ، انجازات قومية عربية رائعة ، استدعت تحرك القوى المعادية لاجهاضها ، وزرع بذور التفرقة من جديد ، فكانت الحرب الاهلية في لبنان خاصرة سوريا ، مترافقا معها تحركات الاسلاميين داخل سوريا ، اجهاضا لنتائج حرب تشرين ، لكن الخلافات العربية اللاحقة رغم مرارتها ، كانت اكثر عقلانية اعلاميا من خلافات الخمسينات والستينات ، فلم نعد نسمع سيمفونية التصنيفات السابقة وبنفس الحدة .
بعد صمت طويل للاستاذ محمد حسنين هيكل ، الذي احبته الجماهير العربية ، من محبتها لمرحلة جمال عبد الناصر ، وهو اقرب المقربين اليه ، وناقل نبضات مشاعره لابناء العروبة ، لقد كنا نجتمع مساءا ، صغارا وكبارا ، لنسمع من اذاعة صوت العرب ، مساء كل خميس على ما اذكر ، ماذا كتب هيكل في صحيفة الاهرام ، وفي زاوية بصراحة ، ولم يكن في تلك المرحلة على ما اذكر ، مشاركا في معارك الردح الاعلامي ، فقد تركت هذه المهمة لطيب الذكر احمد سعيد ، بعد هذا الصمت والانزواء الذي استمر اربعين عاما ، والذي لم نسمع فيه ردا من هيكل ، ضد اتهامات مماثلة ، لم يسلم منها ، حتى الرئيس الراحل جمال عبد الناصر بعد وفاته ، وبعد ان غادر الحياة الارضية ، كل القادة العرب ، الذين تعرض لهم هيكل في فضائية الجزيرة ، وبعد ان اختفى عن الساحة كل من يستطيع الرد عليه ، يعود هيكل الى سيمفونية الخمسينات والستينات ، ليتهم ويدين من دون دليل ، يلقي فقط قنابل صوتية ، استجابة على ما يبدو لرغبات اعداء التضامن العربي ، من اصحاب الفضائيات المشبوهة ، والمواقف المشبوهة ايضا ، هولاء الاقزام الذين يحاولون التطاول على العمالقة .
هذه التصنيفات الصبيانية ، التي تشبه ما يتفوه به صبية الحارات ضد بعضهم البعض ، من تهم كلامية غير مثبتة ، يعلمون قبل غيرهم عدم صحتها ، فقط كي يغيظوا الطرف الاخر ، كان الاحرى بالاستاذ هيكل ، بعد ان تجاوز الثمانين من عمره ، ان لا يتذكر او يذكر ، بفترة المراهقة تلك ، وان لا ينبش جراحا اختفت اثارها تماما ، فلا احد هذه الايام يلتفت الى مثل هذا الردح ومفرداته البغيضة ، التي لا تميز بين التعقل والتهور ، بين قصر النظر وبعد النظر ، والتي مزقت الامة ردحا طويلا من الزمن ، فلا احد يتذكرها الا من قبيل التندر بالخيبات الكثيرة ، التي اصابتنا ذاك الزمان ، ولو اعتمدنا مقاييس الخيانة والعمالة لتلك المرحلة ، واسقطناها على هذه الايام ، فان قائمة الخيانة والعمالة المزعومة ، ستطال الكثيرين من القادة العرب الحاليين ، وستطال احبة الاستاذ هيكل واصدقائه ، وربما تطاله هو شخصيا ، اقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم اجمعين .
m_nasrawin@yahoo.com