مع هدوء الجدل الداخلي حول التحالفات الاردنية مع المحاور المختلفة في المملكة والذي استمر طوال الشهرين الماضيين، يستحق الوضع الراهن في المنطقة تقييم هذه التحالفات بصورة منطقية، والأهم ان يكون هذا
التقييم منسجما مع قيم المملكة الاردنية الهاشمية التي تأسست عليها سياستها الخارجية منذ تأسيس الامارة.
لم يكن الأردن يوما موقفا قابلا للبيع والشراء حسب مستجدات الظروف الاقتصادية أو حجم المساعدات الخارجية من هذه الدولة أو تلك، ولعل ما ميز السياسة الخارجية الاردنية خلال العقدين الماضيين هما أمران أساسيان
وثابتان في هذه السياسة: مركزية القضية الفلسطينية في قضايا المنطقة، والصراحة والمكاشفة والثبات على المبدأ بغض النظر عن تغير الظروف المحيطة أو التكتيكات الديبلوماسية المستخدمة عند الأزمات.
لم يُعرف عن الاردن يوما تذبذبه بين الحلفاء المحتملين للحصول على امتيازات هنا او هناك، وهو ما اضاف احتراما عميقا وصدقية كبيرة لكافة مواقف المملكة في أزمات المنطقة، ولطالما نأينا بأنفسنا عن التدخل في الشؤون الداخلية في بلدان المنطقة، وهو رصيد كبير من المنهج الواثق بنيناه عبر العقود الماضية مكننا على سبيل المثال لا الحصر من تجنب أثار كارثية للأزمة السورية خلال السنوات السبع الماضية.
أكثر ما أثار الغرابة هو دعوات شريحة واسعة من المهتمين الى اعادة صياغة الموقف الاردني من تحالفه مع عدد من الحلفاء الرئيسيين على رأسهم المملكة العربية السعودية مثلا خلال الشهرين الماضيين والاقتراحات التي طالبت بالانتقال الى المحور الايراني في قضايا المنطقة المختلفة نتيجة لشح المساعدات الخارجية والتهديد الرئاسي الأميركي بوقف المساعدات عن الدول التي وقفت بوجه قرار ترمب نقل السفارة الاميركية الى القدس.
مثل هذه الاقتراحات تستدعي التساؤل فعلا حول ما اذا كانت مواقف الاردن هي سلاح قابل للبيع والنقل من كتف الى كتف ؟ والجواب على هذا السؤال لمن يقرأ التاريخ جيدا هو أن هذا البلد لم يكن أبدا الا في الخندق العربي ومع الحل العربي وقابض على جمر الاجماع العربي حتى حين حرق هذا الجمر كف الأردن ذات قرار في سبعينات القرن الماضي، وقلنا يومها « لظلم ذوي القربى أشد مضاضة « وعضضنا على الوجع وابتسمنا بوجه الاشقاء واحترمنا اجماعهم ومضينا به بكبرياء احترام ثوابت مبادئنا الوطنية.
الأردن بلد كبير بفكره وبطموح أبنائه وببناء مواقفه المتزنة، والدور الأردني ليس بيتا للإيجار - لم يكن يوما ولن يكون - وعليه فأعتقد أن من أجمل ما قيل في هذا الدور هو ما أضافه وزير الخارجية السابق عبدالإله الخطيب بأن الدور الأردني لا تقرره الدول الاخرى بل نقرره نحن بكامل ارادتنا، ونحن من صنعنا هذا الدور عبر المملكتين الثالثة والرابعة بثبات ووضوح. ولعل تحركات جلالة الملك عبداالله الثاني تجاه الدول المختلفة بعد قرار ترمب قرأها بعض المحللين بمراهقة سياسية وتسرع بدلا من تحليلها بعمق، حيث أن تحركات جلالته تجاه مختلف المحاور سواء السعودي - الاميركي، أو القطري - التركي، أو حتى الانفتاح البسيط على ايران عبر بوابة مجلس النواب كان يجب أن يقرأ بوضوح من
زاوية الثابت الدائم في السياسة الاردنية وهو القضية الفلسطينية، حيث أن الاردن يمتلك عنوانا صريحا لهذه السياسة: فلسطين فوق الجميع والقدس للجميع ووصايتنا عليها تكليف لا تشريف، وعليه فإن من واجب الاردن حين تتعرض القدس للخطر هو التواصل مع كافة الاطراف والمحاور لإبعاد القدس من الحسابات السياسية المريضة !
الأردن كان طوال عمره ظهر العرب الذي لا ينكشف، ولا يمكن أن نكون السكين التي تطعن أشقاءنا في ظهورهم، حتى لو جرح نصل السكين يوما كفنا، فإننا نعض على الجرح ونقول أن الأشقاء داخل البيت يتناوشون ثم يتوحدون في قضاياهم الخارجية، وشعبنا الوفي لا يمكن أن ينسى المواقف الكريمة للأشقاء العرب معنا، فيما يشطب وفاءنا للعرب كل اساءة تلقيناها من ذاكرتنا تلقائيا لأننا هكذا تربينا وهذه هي قيمنا التي لا بد أن تنعكس على قيم تعاملاتنا مع الجميع.
إن قدرنا في هذا الوطن أن نرزح تحت ضغوطات سياسية كبيرة وظروف اقتصادية أصعب تجعل من السهل الاعتقاد بأننا قابلين للابتزاز، لكن
حين قال أنهم لو وضعوا في يدنا مئات المليارات من الدنانير مقابل الحل على حساب الاردن وكرامة الاردنيين فإن كافة هذه العروض حجم الكبرياء الوطني والكرامة الوطنية طالما وقفت بوجه كل هذه الضغوطات، ولعل جلالة الملك كان واضحا في حديثه قبل ثلاث سنوات مرفوضة. لقد تعرضنا سابقا لمثل هذه الضغوط التي جعلت العالم كله ضدنا حين رفضنا الحل الدولي في أزمة الخليج الثانية رغم التهديد والضغوط والابتزاز وصمدنا حكومة وشعبا في أوائل التسعينات ضد كل الضغوط وخرجنا من تلك المعركة أقوى وبرصيد أكبر من الاصدقاء والحلفاء الذين احترموا صدق الموقف الاردني وشفافيته وحتى بعد نظره الذي أثبته التاريخ لاحقا بعد ما حل بكوارث في المنطقة كنتيجة
للمعالجة الخاطئة لتلك الازمة حتى يومنا هذا !
باختصار، الاردن لم يكن يوما للبيع، ومواقفنا لا نؤجرها بالقطعة، ولن نكون إلا فداء للقضايا العربية والحل العربي والثوابت التي عشنا معها والتي قامت عليها ومن أجلها الثورة العربية الكبرى.... لساننا عربي وقلبنا عربي ورؤيتنا عربية ووفاؤنا لن يكون إلا عربيا على الدوام.... وما غير ذلك الا فقاعات في أذهان من لم يعرفوا الأردن بعد!
الراي