الثرثرة على فيس بوك كشفَت ببراعة، عن نفسيات الآخرين وامزجتهم وأخلاقياتهم وحجوم شخصياتهم في التعامل، وإن لم يلتق هؤلاء بأجسادهم وهيئاتهم، ولكنهم يلتقون بصورهم وأشكالهم وأصواتهم ومقولاتهم وتعليقاتهم وثرثرتهم وأحاديثهم ونفسياتهم.
الكلّ يعبرّ عن رأيه، والكلّ يقدّم ما لديه من أفكار ورؤى وتعليقات وطرائف وهواجس، والكلّ يستأنس أو يفرح، أو يغضب، أو يحزن، او يغتاظ .. وهذا يجامل أو ينافق أو يمدح، وذاك يشتم أو يقدح، وذاك يصمت ويتحسّر، أو يتجاهل ويغضّ الطرف، وذاك يتعصّب، وهذه تراقب وتتجسّس في الخفاء .. وهذا يأخذ موقف معتدل، وذاك ضيق الأفق يسئ الظن ..
آخرون "نسأل الله أن نكون منهم" لهم حلمهم ومرونتهم وانفتاحهم ومحبتهم واتساع صدورهم، أو سماحتهم وتقديرهم وقيمهم العليا بالرغم من اختلاف القناعات وتباين الأفكار، وهكذا فإن فيس بوك فعلاً أصبح ميداناً للثرثرة واستعراضياً للنفسيات المتنوعة.
امتلأت صفحات فيسبوك بالأخبار الشخصية التي لا تهم غير أصحابها وبالصور الفوتوغرافية التي سهّلت تقنيات الهاتف التقاطها في كل مناسبة وكل مكان ونشرها على فيسبوك وكأنها حدث عظيم، وتلقت المئات من علامات الإعجاب وخاصة إذا كانت الصورة لامرأة جميلة، ليست هي بالضرورة صاحبة – أو صاحب – الصفحة، بينما المواد النافعة والإيجابية والرصينة لا تتلقى إلا عددا محدودا جدا من علامة الإعجاب!!
فتح فيس بوك المجال للجميع للنشر بأنواعه، مهما كانت مستوياتهم الثقافية والفكرية، فأصبحوا كلهم شعراء وكلهم محللين، وكلهم مفكرين، أو يمارسون النقد ويتعرضون سلباً إلى أشخاص مرموقين أو يهاجمون الإنجازات الفكرية والثقافية، أو يذمون ويجرّحون بعض الأعمال.
ثرثرة فيسبوكية اليكترونية وخروج عن الحد وضوابط الكلام، أدمن عليها الكثير من الناس، لدرجة أن هؤلاء لا يستطيعون العيش من دونها، لا يعرفون القول المأثور، إذا تحدث أحدكم فليقل خيراً أو ليصمت.
الأصل في الكلام على فيس بوك أو غيره أن يكون بمقدار الحاجة، وبما لا يضر بالآخرين أو بسمعتهم، وألا يكون فيه إساءة أو تجريح، وألا يتحدث الإنسان إلا بما ينفع، وأن يقلل من المزاح، لأن كثرة المزاح قد تؤدي إلى مشكلات بين الناس، وكثرة الكلام كثيراً ما تكشف العيوب، وتزيد من إمكانية الوقوع في الخطأ. فكلما كثر الكلام زادت احتمالات الوقوع في الخطأ. الثرثار على فيس بوك أو بين المجالس العامة، هو محل سخرية يتحاشاه الناس.
الثرثرة كما يقول علم النفس سواء كانت اليكترونية أو في المجالس هي داء لا يشعر به الثرثار نفسه وإنما يشعر به الآخرون، وتقع بلواه على رؤوسهم. ويؤكد علم النفس كذلك أن الثرثارين يجدون لذة في الثرثرة، وخصوصاً عند الطعن في آراء وميول الآخرين، أو النيل من سمعتهم وكرامتهم. ويثرثرون فقط ليثبتوا أنهم موجودون عملاً بمبدأ أنا أثرثر إذاً أنا موجود، حتى يلفتوا الانتباه إليهم أو لتعويض نقص ما في شخصيتهم يحاولون التخلص منه.
الثرثرة عبر مواقع التواصل الاجتماعي عموماً باتت تأخذ جلّ وقت الشباب حتى صار التعليق والدردشة عبر هذه المواقع هو الشغل الشاغل الذي لا ينتهي لكثير من ابنائنا.
أنا لست ضد التواصل ومعرفة الآخرين والاهتمام بهم، لكن ليس لدرجة قتل الوقت الثمين وهدره في اقتحام الخصوصيات والإساءة للآخرين، وما بين الثرثرة وعدمها تتضح معالم شخصية الانسان، ففي حياتنا العامة قد نعجب في أمور كثيرة فتخالف ظنوننا بعد تجربتها، وقد نصادف احياناً في مجالسنا اشخاصاً يتصدرون الجلسات ويبادرون بالحديث في أمور شتى دون أن يطلب منهم ويفتون بمعلومات عن كل شيء لا أصل لها ولا سند، فتنبهر بهم أعين البعض، فيتضح لنا بعدئذ أن جهينة ليس عندها الخبر اليقين، بل عندها ثرثرة. مع اعتذاري للفيلسوف الفرنسي ديكارت على نحت مقولته الشهيرة في عنوان هذا المقال.