جولة في فكر السويدي: العالم العربي بين التغيير والاستجابة او الفناء
السفير الدكتور موفق العجلوني
30-01-2018 11:50 PM
طالعتنا صحيفة الاتحاد الاماراتية قبل أيام بمقال للدكتور جمال بن سند السويدي مدير عام مركز الامارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية بعنوان التغيير والاستجابة او الفناء. مقال في الحقيقة يحتاج الى وقفة تأمل وقرأه بتمعن وتفكير عميق لما تضمنه من عناوين كبيرة وهامة وحساسة، وبنفس الوقت جاء المقال كجرس انذار للعالم العربي الذي يغط في سبات عميق بينما العالم في حالة تغيير دائم واستجابة لمعطيات العصر، وكما جاء في مقال الدكتور السويدي: لا شكَّ في أن التغيير هو سُنة الحياة، و «لا شيء يدوم سوى التغيير»، كما قال الفيلسوف اليوناني القديم هرقليطس (535 -475 ق. م). لكن يبدو لم يشهد العالم في أي مرحلة من مراحل تاريخه مثل هذا الاندفاع القوي والجارف نحو التغيير السريع والجِذْري الذي يعيشه منذ سنوات.
ويضيف الدكتور السويدي: التغيير في كل شيء، بدءاً من السياسة والاقتصاد والنقل والطب والتكنولوجيا والثقافة والفكر، وانتهاءً بالمناخ ... وفي ظل ذلك؛ فإن مفهوم المستقبل نفسه قد تغير؛ فلم يعد استشراف هذا المستقبل يتحمَّل النظر إلى عقد أو عقدين مقبلين، وإنما من سنتين إلى ثلاث سنوات، بالنظر إلى أن التغيير قد أصبح من السرعة والضخامة بحيث إن العالم الآن يشهد، خلال عامين أو ثلاثة، تحولات أكبر بكثير ممَّا كان يشهدها خلال عقود من الزمن في الماضي.
وفي استعراض لمقال الدكتور السويدي، استوقفتني عدة محاور وعناوين، باعتقادي كل من هذه العناوين والمحطات يحتاج الى فريق بحث متخصص والى رسائل دكتوراه بحيث تكون فرق البحث ورسائل الدكتوراه بمثابة جرس انذار ليفيق العالم العربي من سباته العميق وكبواته المتلاحقة ويلحق بركب التغير الحاصل في هذا العالم في كافة المجالات، وأبرز هذه العناوين:
* - التغيير المقبل ربما سيفوق كل تصور أو قدرة على التخيُّل. فعلى المستوى التكنولوجي تدخل البشرية مع «الثورة الصناعية الرابعة» آفاقاً غير مسبوقة في التطور التكنولوجي، وتطبيقات الروبوت، والطباعة الثلاثية الأبعاد التي ستكون لها تأثيراتها الكاسحة في كل جوانب الحياة على كوكبنا. وفتح التطور العلمي الجبَّار الباب واسعاً أمام فكِّ الكثير من أسرار الكون، وغدت منجزات العلم قادرة على صنع المعجزات وإعادة اكتشاف، ليس الحاضر والمستقبل فقط، وإنما الماضي أيضاً.
* - على المستوى السياسي يتحول العالم بسرعة لافتة للنظر عن الكثير من المسلَّمات التي عرفها وتعامل معها على مدى العقود الماضية، من حيث توازنات القوى، ونظرة الدول إلى مصالحها، وكيفية تحديد هذه المصالح والدفاع عنها، وآليات الصراع، وأدوات الحروب، وأنظمة الحكم، ودور الشعوب، بل إن وجود بعض الدول نفسه أصبح مهدَّداً، وتغيرت طبيعة التهديدات ومصادر الخطر في ظل حروب «الجيل الرابع» التي نعيش فصولها خلال الفترة الحالية، وحروب «الجيل الخامس» التي يستعد العالم للانخراط فيها.
* - على المستوى الاقتصادي تتغير مفاهيم الثروة والموارد وأدوات الإنتاج بشكل متسارع، وخاصة مع تطور التكنولوجيا، والاتجاه نحو الاقتصادات المبنية على المعرفة، والتحولات التي تلحق بمزيج الطاقة في العالم، وخصوصاً فيما يتعلق بدور النفط وموقع الطاقة المتجدِّدة في مزيج الطاقة العالمي، وغيرها من المعطيات المرئية والخفيَّة.
* - على المستوى الثقافي تتعرَّض منظومات القيم والعادات والمعتقدات لتحولات جِذرية متأثرة بالتغيرات والتطورات بكل مجالات الحياة في ظل العولمة وتحول العالم إلى ما يشبه القرية الكونية الواحدة.
* - على مستوى الاتصالات والمعلومات لا يمكن لأي شخص إلا أن يلحظ هذه الثورة الكبيرة في وسائل الاتصال التي خلقت فضاءات افتراضية موازية من الصعب الإلمام بها، أو السيطرة عليها، أو الإحاطة بحدودها، وعزَّزت التواصل بين البشر المنتمين إلى ثقافات وحضارات ومذاهب وأديان متنوعة، وهي ثورة لم تبلغ مداها بعدُ، ولا يمكن توقع نهايتها.
وفي الوقت نفسه انفجرت براكين المعرفة، الإيجابي منها والسلبي، والحسن والرديء، أمام البشر بفضل تكنولوجيا المعلومات التي زادت من معارف الناس ووعيهم وقدرتهم على الوصول إلى المعلومة بسرعة، وفي أي وقت أو مكان، بما يمثله ذلك من معانٍ مهمة على المستويات السياسية والثقافية والاجتماعية. وشهد قطاع التعليم تحولات جذرية، من حيث المناهج والأدوات والأهداف؛ ما جعله مجالاً أساسياً للتغيير والابتكار في العالم كله، خاصة أنه القطاع الأهم بالنسبة إلى أي دولة تروم التقدم والمشاركة الفاعلة في عملية التغيير التي يشهدها العالم.
* - على المستوى الفكري ثمَّة نظريات ورؤىً جديدة في السياسة والاقتصاد والاجتماع وغيرها تطيح ما عرفه العالم على مدى سنوات طويلة من نظريات وأفكار وأيديولوجيات، أو تعيد النظر فيها، أو في بعض جوانبها.
* - على المستوى الديموغرافي هناك تصاعد مستمر في معدلات نمو السكان بالعالم، خاصة مع الرعاية الصحية التي ترفع معدلات الأعمار؛ فقد احتاج العالم إلى 123 سنة لكي يزيد سكانه من مليار نسمة إلى مليارَي نسمة، في حين أنه احتاج إلى أحد عشر عاماً فقط لكي يزيد من خمسة مليارات نسمة إلى ستة مليارات نسمة، ويُتوقَّع أن يصل عدد سكان العالم إلى أكثر من تسعة مليارات نسمة في عام 2050.
ولا يجادل أحد في أن العالم في حالة تغيير دائم، لكن التغييرات التي شهدتها البشرية خلال السنوات الماضية، والتي يُتوقَّع أن تشهدها خلال السنوات المقبلة، لا تقع ضمن معدلات التغيير الطبيعي التي جرت عبر القرون الماضية، وإنما تخرج عنها، وتكسر كل القيود لتتحول إلى زلزال يهز كل شيء، ويغير كل شيء بوتيرة متسارعة، بحيث تتوالى التغييرات في كل المجالات بشكل يجعل من الصعب متابعتها أو الإحاطة بها. ولا يتوقف الأمر عند وتيرة التغيير، وإنما يمتد إلى حجم هذا التغيير ومضامينه؛ فهو تغيير جذري لا هامشي، وحقيقي لا مُتوهَّم أو مفترَض، كما أنه تغيير شامل بمعنى أنه لا يوجد أي شيء على ظهر الأرض بعيد عنه، أو في حصانة منه، سواء كان تكنولوجياً أو سياسياً أو اجتماعياً أو ثقافياً أو غيرها.
من جهة اخرى يأخذنا الدكتور السويدي في جولة اخرى في بيان الاسباب التي تقف وراء هذا التغير سوآء كان في الجانب السياسي ام الاقتصادي ام الثقافي ام العلمي حتى في التحالفات السياسية والعسكرية والتي نشاهدها في ايامنا هذه او حتى في المستقبل القادم والتي تتمثل بالنقاط التالية:
أولاً: انفجار قدرات العلم بلا حدود، خاصة على المستوى التكنولوجي، كما أن التراكم المعرفي والعلمي قد أصبح من الثراء والغزارة بحيث غدا قادراً على تغيير وجه الحياة على الأرض، وقلبها رأساً على عقب في فترات زمنية قصيرة جداً، وذلك في ظل اتساع الاستثمار في البحث العلمي مع التغير الذي لحق بمفهوم الثروة، بحيث أصبحت المعرفة من أهم تجلياتها ومصادرها وأبرزها.
ثانياً: إطلاق حرية الفكر بلا قيود، سواء على مستوى العلوم التجريبية أو الإنسانية، حيث ظلت قيود الدين والأساطير والخرافات تعوق العلم قروناً طويلة إلى أن تحرَّر الفكر مع عصر النهضة في أوروبا، ومن ثم انطلق من عِقاله ليكسر قيوده قيداً بعد الآخر؛ وليصل بالعالم إلى ما وصل إليه من تطور وتحول جِذريَّين في المجالات كافة.
ثالثاً: اتساع حدَّة التنافس على الساحة الدولية حول النفوذ والمكانة والسلطة، ورغبة دول ومجتمعات عدَّة في الانضمام إلى نادي الدول المتقدمة، أسهما في خلق حالة مستمرة من الابتكار والإبداع والتغيير بلا حدود، قسَّمت دول العالم إلى قسمين: قسم مع التغيير ومنخرط فيه ومشارك في تحولاته، وقسم آخر ضد هذا التغيير أو يعيش على هامشه.
رابعاً: لعلوم الحديثة، وخاصة التكنولوجية، لم تعد مقتصرة على الغرب أو عدد محدود من الدول في العالم، وإنما اتسع مجالها مع مزاحمة دول عدَّة في مضمار التقدم العلمي، ومن ثم اتسع مجال العلم، وزادت ابتكاراته.
خامساً: الاختلال في العلاقة بين الموارد والحاجات بشكل خطِر، وهو الاختلال الذي يتوقع أن يتزايد خلال الفترة المقبلة؛ ما جعل العالم يستنفر قواه في محاولة سدِّ هذه الفجوة أو التعامل معها.
سادساً: الانتعاش الكبير الذي لحق بعلوم المستقبل في المجالات كافة؛ وهذا فتح الآفاق للخيال وتجاوُز المألوف في كل العلوم من دون استثناء.
سابعاً: العولمة وما أحدثته من تفاعل بين البشر أسهم في خلق أفكار وقيم ونظريات جديدة، وخاصة مع ثورة المعلومات والاتصالات، كما أسهم في حدوث تحولات ثقافية واجتماعية كبيرة؛ خاصة فيما يتعلق بطبيعة النظرة إلى الذات والآخر.
ثامناً: تزايد المخاطر والتهديدات على سطح الكرة الأرضية، وتعدُّد مصادرها، بحيث أصبحنا نعيش في عصر المخاطر، وهذا استنفر التفكير البشري للبحث في صيغ ونظريات ورؤى جديدة للسيطرة على هذه التهديدات وتقليل المخاطر.
ويتابع الدكتور السويدي حديثه: اين العالم العربي من كل هذا التغيير والاستجابة في ضوء المعطيات السابقة والتي ذكرتها انفاً؟ يجيب الدكتور السويدي بالقول:
التحدي بالنسبة للعالم العربي ليس هو موقعه على خريطة التغيير في العالم فقط، وإنما تقديم إجابات حاسمة حول ما يثيره هذا التغيير من قضايا اجتماعية وإنسانية ودينية وأخلاقية أيضاً. وفي الوقت الذي ينشغل فيه العالم بالتغيير وكيفية التعامل معه والاستفادة منه والانخراط فيه؛ فإننا الدول العربية ما زلنا مشغولين بقضايا جانبية.
وبالتالي فان التغيير الجذري الذي يشهده العالم وسيشهده خلال السنوات المقبلة، قد أصبح قضية وجود؛ ولذلك فإن الدول العربية والإسلامية مطالبة بالتعامل معه من هذا المنطلق، وضمن أُطر مؤسسية جادة وفاعلة، عبر إنشاء أجهزة، أو هيئات، أو حتى وزارات معنية بقضية التغيير، من حيث الدراسة والبحث ووضع الخطط والاستراتيجيات، تتجمَّع فيها الرؤى والخبرات والكفاءات في المجالات المختلفة، وتكون مهمتها الرئيسية هي رسم طريق التعامل مع التغيير باعتباره أولوية قصوى.
نتطلع الى سلسلة المقالات التي سيطل بها علينا الدكتور السويدي طوال هذا العام، والتي سوف تتناول التغيير بصفته قضية وجود، أو قضية حياة أو موت بالنسبة إلى الدول العربية بكافة جوانب التغيير وعلى المستويات: السياسية والاقتصادية والعسكرية والأمنية والثقافية والاجتماعية والتكنولوجية وغيرها، وموقفنا منها وموقعنا فيها كعالم عربي.
إضافة الى تحفيز التفكير لدى كل المؤسسات والجهات والهيئات المعنية بالمستقبل في العالم العربي؛ بهدف وضع تصورات لهذا المستقبل وموقعنا على خريطته؛ لأن التفكير في المستقبل، ومحاولة استشرافه والتعرُّف إلى ملامحه، لم يعودا ترفاً فكرياً ينحصر في الدراسات الأكاديمية التي تقوم بها المعاهد والجامعات المتخصِّصة، وإنما أصبحا مسألة حياة أو موت، أو قل مسألة وجود؛ فحجم التغييرات المتوقعة في المستقبل تؤكد أن عالم الغد سيكون مختلفاً جِذرياً عن عالم اليوم.
ويخلص الدكتور السويدي في مقاله بالقول: الذين لا يشاركون في التغيير ليس بإمكانهم البقاء بعيداً عن تأثيراته وتداعياته، كما كانوا في الماضي؛ لكي «يعيشوا هكذا، ويموتوا هكذا»، كما قال فرويد، فلم يَعُد هناك إلا خيار واحد: إما الاستجابة للتغيير والمشاركة فيه، وإما الفناء، وإن التغيير الحادث في العالم شبيه بسفينة نوح: اللحاق به يعني النجاة، والتخلف عنه يعني الغرق.
واختم مقالي بقوله تعالي في سورة الرعد اية ١١ - بعد بسم الله الرحمن الرحيم: ان الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم. صدق الله العظيم.