رئاسة الجامعات بين مطرقة الخبرة وسندان الأبحاث
محمد أنس العمري
23-01-2018 05:39 PM
انشغل الرأي العام الاردني بعدة قضايا على الصعيد الوطني كرفع الاسعار، وعملية السطو على أحد البنوك في العاصمة عمان، الا ان ما يشغل بال الوسط الأكاديمي بشقيه من اعضاء هيئة تدريس واداريين هي قضية تعيين رؤساء الجامعات التي اتخذ فيها مجلس التعليم العالي بقيادة ربانه معالي الوزير قرارا تاريخيا بإنهاء خدمات ثلاثة من رؤساء الجامعات.
وما يشغل بالهم يتمحور حول قضية اساسية وهي آلية التعيين ومخرجاتها وهل ستفضي الى النتائج المرجوة ، بمعنى اخر هل ستفضي الى رؤساء جامعات اكفاء ومؤهلون لشغل هذه المناصب ، فمنذ نعومة اظفارنا وقبل ان تغزو التكنولوجيا العالم كنا نقف مدهوشين امام روايات الجدات والاجداد حول تلك الشخصيات البطولية التي سطرت التاريخ واضحت معالم لأجيال واجيال ، وما يجمع تلك الروايات ينصب تحديدا على البطولة والحكمة والقيادة واتخاذ القرار المناسب في الوقت المناسب ، فالشخصية القيادية والاستثنائية للأبطال هي التي جعلت قصصهم مخزونا معرفيا وثقافيا للأجيال وخزنت في الوعي الجمعي كجزء من شخصيتنا العامة ، وما اريد قوله هنا – وارجو ان لا يفهم خطأ – ان ما يميز الشخصيات التاريخية دورها القيادي مهما كان المركز التي تضطلع به فالفارس او شيخ القبيلة او القائد العسكري ورئيس الدولة لم يكونوا بالضرورة حملة شهادات او تعليما لكنهم حملوا الصفات الاهم وهي الشجاعة والعدل و القدرة على اتخاذ القرار المناسب لما فيه المصلحة الجماعة بعيدا عن الاهواء والرغبات والمصالح .
ورغم ان بعضهم سيرى الا علاقة لهذا بالمقدمة الا انني اجد ان العلاقة بينهما وطيدة جدا ، فلا بد ان نعي ان المعايير السابقة التي اعتمدها اللجان المختلفة لتزكية رؤساء الجامعات شابها عيوب ادت الى مخرجات غير مؤهلة للقيادة ، وهي التركيز على الشكل دون المضمون ، فمنصب رئيس الجامعة ليس منصبا اكاديميا صرفا ، بل انه لا يرتبط اساسا بالعلم والتعليم بصفة مباشرة بل بالإدارة ، فرئيس الجامعة مسؤول عن الاف الموظفين ، واعضاء الهيئة التدريسية ، وعدد ضخم من الطلبة ، ودوره القيادي لا يرتبط بكم الابحاث التي انجزها حتى بلغ درج الاستاذية ولا اهميتها ، بل يرتبط ابتداء بالكاريزما الشخصية التي يتمتع بها ، والحنكة التي تمكنه من مسك جميع الخيوط والموازنة بين المصالح التي قد تتعارض احيانا ، فهو مؤتمن على مصالح الطلبة مخرج العملية التعليمية ، وهذا يتطلب حسن سير العلمية التدريسية المناطة بالهيئة التدريسية و تهيئة الجو المناسب لأعضاء هيئة التدريس والمحافظة على هذا الكادر دون ان يمس ذلك مصلحة الجامعة وقدراتها المادية ، ويتطلب هذا الامر كذلك حسن سير الجامعة وتقديمها للخدمات المطلوبة منها وهو عمل معقد يحتاج الى كادر اداري يجمع كما هائلا من الدوائر والوحدات التي يناط بها اعمالا مختلفة من الزراعة الى النظافة الى القبول والتسجيل والعطاءات والامن والكثير الكثير ، ويتطلب هذا الامر كذلك المحافظة على العلاقة الطيبة بين الجامعة والمجتمع المحلي ، والعلاقة بين رئاسة الجامعة والمجالس المختلفة التي تتولى مهام متنوعة من مجلس العمداء الى مجلس الجامعة الى مجلس الامناء والعلاقة مع مجلس التعليم العالي .
خلاصة الامر ان رئاسة الجامعة عملية معقدة يجب ان لا تحصر في موضوع التقييم بزاوية واحدة غير قادرة على افراز الشخص المناسب وهو الكفاءة العلمية – وهذا لا يقلل من اهميتها البتة – فهي مطلوبة من حيث النزاهة في الابحاث العلمية واستيفاء متطلبات البحث العلمي ، لكنها غير كافية وحدها لتقيم قدرات الشخص الادارية ، والكاريزما الشخصية التي يتمتع بها ، فلو فرضنا ان عالما وجاهلا ذهبا الى البحر فغرقا وكان الجاهل يعرف السباحة والعالم لا يعرفها ، المنطق هنا ان ينجو الجاهل ولا ينجو العالم لان المعايير المطلوبة هنا مختلفة وهذا ما ينطبق حرفيا على رئيس الجامعة ، فيا ايتها اللجان ان المطلوب بالرئيس القادم بعد العلم - ولا اظن ان من يحمل رتبة استاذا يفتقر لها - القيادة ثم القيادة ثم القيادة.
ثم اسمحوا لي ان اضيف ملاحظة اخرى فقد عانت بعض جامعاتنا في الآونة الاخيرة من تركة سيئة نتيجة الشللية والمحسوبية والفساد الاداري حيث تبوء المناصب الادارية اشخاص لاعتبارات مختلفة لم يكن من احدها الكفاءة وخلق هذا جوا محتقنا وتقسمت الهيئات الادارية والتدريسية الى فئات تحارب بعضها بعضا على حساب المؤسسة التي سمع انينها المجلس فاتخذ قراراه التاريخي ، وهذه التركة تحتاج الى شخصية بمواصفات معينة تكون قادرة على تمييز الغث من السمين دون ان يكون ذلك ناتجا عن اي اعتبار سوى الكفاءة ومصلحة الجامعة فقط ، واني من مقامي هذا لأشفق على الرؤساء القادمين أيا كانوا فالحمل ثقيل والبناء اصعب بمرات من الهدم ، وهذا كله يعني ضرورة مراعاة امرين في اختيار رئيس الجامعة ، الاول كما اشرت سابقا الا تكون غزارة الانتاج العلمي وكميات الاقتباس المعيار الاهم بل احد معايير التقييم ككل ولنا في اعداءنا مثالا صارخا على ذلك فقد رفض اينشتين الذي قد يكون ابرز علماء القرن العشرين واكثرهم تأثيرا رئاسة دولة الكيان الصهيوني فجاوبه كان انه عالم لا رئيس دولة ، والاخر ان اهل مكة ادرى بشعابها فكل جامعة تقدم لها العديد من الاساتذة الذين نكن لهم الاحترام ، لكن الاولى ان يتم تعيين رئيس الجامعة من اعضاء الهيئة التدريسية فيها فهذا يعني انه يحوز الحد الادنى من المعرفة حول الاشكاليات التي تعاني منها ، وما شاب تعيين المدراء والعمداء واصحاب المناصب من عيوب وتجاوزات ، ذلك ان لكل جامعة خصوصيتها التي لا يختلف عليها اثنان ، والذي يتطلب ان يكون التنافس حرا شفافا دون ان يستثني الخصوصيات ومتطلبات الخروج بالرجل الانسب لقيادة الجامعة نحو الافضل، وهذا امر لا اعتقد انه يغيب عن اللجنة التي حظيت بثقة اقوى مجالس التعليم العالي بتاريخ المملكة ، التي استطاع معالي وزير التعليم العالي ان يعيد له هيبته ، وان يهب للقيام بدوره في صيانة التعليم العالي واثرائه ، وكم هو محظوظ هذا الوطن بمثل هذا الوزير وفرسانه اعضاء المجلس ، ولكن التذكير والنصيحة واجب فنحن خير امة اخرجت للناس لأننا نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر .
نحن امام مفصل تاريخي ابتدأ بفرض رقابة المجلس على اداء رؤساء الجامعات ، ولم يكن الاهم فيه انهاء خدمات رؤساء بعض الجامعات كما يعتقد البعض ، بل ان فرض الرقابة اوصل الرسالة المطلوبة لرؤساء جميع الجامعات الحكومية والخاصة ، فانت لم تملك الجامعة عندما عينت رئيسا لها وهي مؤسسة وطنية لا مزرعة خاصة. ولا بد ان يتم هذا المفصل من خلال اختيار رئيس مناسب لكل جامعة وهو ما اثق انه سيكون لان مجلسا بهذه القوة والإرادة والرغبة، على رأسه وزير لا يخاف في الحق لومة لائم، استطاع ان يقود دفة التغيير في هذه البحار المتلاطمة من المصالح لا بد ان يكون حريصا على اختيار الافضل .
اتمنى التوفيق للجنة والمجلس ومعالي الوزير
حمى الله الوطن وقائده جلالة الملك المفدى