في دبي، وفي منطقة ديرة تحديدا، وليس بعيدا عن دوار الساعة غير المعروف لسكان ألاسكا، يوجد مطعم هندي صغير، أكاد أجزم بأن مساحته لا تتجاوز 5م بـ 5م، الله الوكيل!
المطعم يقدم لزبائنه –وما أكثرهم- أكلات هندية خفيفة، بالإضافة إلى شاي بالحليب أو بدون حليب! وهو شعبي جدا وضيق قليلا ومتواضع ومقاعده وطاولاته خشبية عتيقة إذا جلس رجل سمين ما على أحدها لربما تتهاوى!
كثيرا ما كنت أمر به ولم يخطر على بالي مرة واحدة أن أتناول عنده أي شيء، فجلالة ذاتي اعتادت على ارتياد المقاهي العالمية التي تحتضنها المدينة الأسرع نموا في العالم بأرقى المناطق وأجمل الأماكن!
لكن صديقا لي –سامحه الله- أشار علي بتذوق الشاي بالحليب في هذا المطعم القديم وقد استغربت منه ذلك لكنه أصر على ضرورة ذلك ولو مرة واحدة على الأقل!
فذهبنا ويا ليتنا ما ذهبنا! وطلبنا كأسين من الشاي بالحليب، وجلسنا على أحد المقاعد –لحسن الحظ لم تتهاو- ننتظر سيادتهما!
أثناء ذلك، كان الذهول يجتاحني لحظة بلحظة، ذلك أن جملة من السيارات الفارهة بدأت تنتظر في طابور طويل أمام هذا المطعم البالي ليأخذ أصحابها كأسا من الشاي بالحليب فقط!
وما أذهلني أكثر أن رجلا بكامل أناقته، كان يجلس بجانب أحد عمال النظافة بكامل وساخته، يتناولان معا فطورهما، ويتحدثان حول ارتفاع الأسعار الجنوني لمادة البيض في دبي!
وفي هذا المطعم قد يجتمع الهندي والباكستاني، أو العربي والفلبيني، أو الصيني والإثيوبي أو غيرهم من جنسيات أخرى على اختلاف دياناتهم ومللهم، وقد يتحدثون معا إن سنحت الفرصة عن الأزمة المرورية الخانقة التي يعاني منها كل واحد منهم!
تراهم يجلسون بجانب بعضهم بعضا غير مهتمين للون البشرة أو حال اللسان أو هيئة الإنسان، إنما همهم تناول طعامهم وشرابهم والتحدث حول الارتفاع الهستيري لقيمة المخالفات المرورية التي تفرضها هيئة الطرق والمواصلات في دبي على كل مخالف!
تشرف أخيرا حضرة الكأس! وما أن ارتشفت الرشفة الأولى حتى أوصيت النادل المتجهم بكأس ثانية! فمذاقه برأيي ليس رائعا وحسب، إنما فريد! ولم أتذوق مثله قط في أي مقهى من المقاهي الفاخرة التي تتناثر هنا وهناك على طرقات دبي العامرة!
تلكم المقاهي تتفاخر بروعة تصاميمها الداخلية وبهاء أروقتها وفخامة أثاثها ورقي خدماتها ولمعان سيقان مضيفاتها اللواتي يتوسلن إلى المارة هنا وهناك بارتياد مقاهيهن!
رغم ذلك فإنني أراهن كل مقامر ومقامرة في دبي –وما أكثرهم- بان تلكم المقاهي لا تستطيع أن تجمع أناسا مختلفين بطبقاتهم الاجتماعية على طاولة واحدة كما يفعل "كافتيريا موعود"!
وذلك لأن تلك المقاهي لربما تنسى أو تتناسى أن الناس هذه الأيام بمختلف شرائحهم الاقتصادية: أغنياء كانوا أم فقراء لا يريدون أكثر من كأس شاي بحليب ذي مذاق طيب وطعم أصيل للحديث على طاولة واحدة عن الارتفاع الحاد للتضخم في دبي!
بأي حال من الأحوال قد يتساءل أحدكم: لماذا إذن سألت ربي أن يسامح صديقي على إشارته علي بتذوق كوب من الشاي بالحليب في هذا المطعم مدة أن مذاقه ليس رائعا وحسب إنما فريد؟!
ذلك لأنني في كل مرة أرغب بتناول كوب منه فيه أشعر بإحباط شديد وتعاسة أكثر شدة لفشل منتدى دافوس الاقتصادي السنوي بتقديم كأس من الشاي بالحليب يجمع القادة والزعماء ورجال الأعمال المشاركين به من شتى أنحاء المعمورة على طاولة واحدة للاتفاق لا بل للتحدث ولو لمرة واحدة على الأقل عن معاناة مشتركة بين شعوبهم لا عن معانة شعب كل واحد منهم!