في غابة الحجارة المناطحة السماء والحاجبة الغيوم، تحتاج دبي إلى الشعر كي يؤنسن روحها، وكيلا يجعل العولمة تختطفها إلى الحد الذي تختنق فيه الأشجار والبحار والعصافير.
دبي أدركت هذا الأمر مبكرا وحاصرت فداحته، فذهبتْ إلى الشعر والتشكيل والسينما والمسرح من أجل أن تهب العمران مسحة جمالية تجعله يرقّ ويهتف مع منجزات العولمة بصفتها انتصار الإنسان على المستحيل. أليس ترويض الصحراء على النحو الذي شاهدناه في دولة الإمارات طوال ثلاثين عاما، هو أبدع قصيدة خطتها المخيلة؟
وليس الشعر ها هنا ديكورا، كما يحدث في غير مكان أو مهرجان في عالم العرب، بل هو مشروع جاد تجهد دبي في سبيل جعله ملمحا للمدينة التي تجمع الثقافات وتصهر الاختلاف في بوتقة التعددية التي يلمحها الزائر لدبي في كل شارع أو سوق تجاري أو فندق.
وخير دليل على جدية دبي، وهي تتنكب لهذا المشروع التنويري الطويل المدى، العناية الخاصة والشخصية التي يوليها الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، وهي عناية يستطيع المراقب اللماح إدراك أن سياقها بروتوكولي، أم أنه انخراط جوهري في فعل الثقافة، فلقد لمحناه أواخر العام الماضي في ندوة الحوار الثقافي العربي الألماني، حيث مضى يصغي بانتباه ملحوظ لحديث أدونيس وحسن حنفي وفهمي جدعان ومطاع صفدي وهم يعاينون الآفاق المشتركة بين الشرق الغرب.
ورأينا الشيخ محمد يحضر افتتاح مهرجان الشعر الدولي الأول الذي تجري وقائعه الآن في دبي، وشاهدناه يتابع ندوة شاعر تونس العظيم أبو القاسم الشابي بمناسبة مرور مائة عام على ولادته ويجلس بجوار ابن الشابي وحفيده.
ونادر نموذج المسؤول العربي الذي يولي الثقافة هذه العناية العميقة التي تنتسب إلى فعل الإبداع بمعناه الصميمي الذي يرنو إلى الإضافة والتجاوز. لهذا تتفوق دبي في العمران بالمقدار نفسه الذي تتفوق وهي تؤثث الروح بالجمال، وتبث المعرفة وتطبع الكتب وترعى دور النشر وتستضيف المثقفين والمفكرين وتجسر الهوة بين الحضارات المتشابكة والمتصادمة والمتنافرة.
ورغم لظى الأزمة المالية العالمية، إلا أن ذلك على فداحته لم يمنع الشعر من أن ينبري لمنح الغيوم أجنحة، والفراشات أشرعة، والنساء أساور من بريق النجوم. ولا يعكس هذا الأمر سلوكا انسحابيا من تبعات الأزمة المالية وعواصفها العاتية، وإنما هو بخلاف ذلك تماما، ذهاب إلى مراودة المستحيل وهزيمة الصعاب وترويض الصخرة الكأداء العنيدة. بل إن الإصغاء للشعر في ظلال الأعاصير تأكيد على قيمة الوجدان وإغنائه، وترصيعه بجواهر المعرفة العالمية.
في مركز دبي التجاري العالمي جرى افتتاح مهرجان الشعر الذي دعي إليه 104 شعراء من سائر أنحاء العالم، وفي المركز التجاري الشاهق هتف شعراء كثيرون. ولما كانوا يعودون إلى فنادقهم تحفّهم من الجانبين الأبراجُ والعمارات الشاهقة كانوا يدركون سر أن يتآخى معمار القصيدة مع غابة الإسمنت التي تزاحم الغيوم في علوها وامتدادها.
هذه دبي الآن، تنام على خاصرة البحر، وتحلم بالمراكب التي تأتي من وراء المحيطات محملة بالبشائر والمسرة والأمل، وتستقبل الشعراء وتحرس قصائدهم وتفتح لها الأمداء على اتساعها الفسيح.
m.barhouma@alghad.jo