إن المستقبل لهذا الدين، وإن المستقبل كذلك للأمة المسلمة… وهي قوةٌ هائلةٌ، وثروةٌ عظيمةٌ فقط عندما تعتصم بحبل الله، ولا تتفرق في الدين، وهذه مهمة أصحاب الدعوات والعلماء الممسكين بالكتاب، المُبلِّغين كامل الرسالات.
والأمة الآن في غربةٍ عن دينها وكتابها، وفي حصار علماني منذ أكثر من مئتي سنةٍ، وتعيش منذ أمدٍ بعيدٍ ظروفًا قاسيةً، وظالمةً، ومُستَبَدٌّ بها حتى تفشَّتْ فيها كل أمراض الاستبداد، وصار حالها أشبه ببني إسرائيل في الطبائع والنفوس! ولعل هذه أحد الأسباب التي جعلت القرآن الكريم يُفصل حال بني إسرائيل تفصيلًا؛ إذ هو أكثر القصص ذكرًا في القرآن الكريم، وذلك لتحذير الأمة المسلمة أن يصير حالها إلى ما صارت إليه بنو إسرائيل… وإذا صارت -لا قدَّر الله -فهذا لا يعني اليأس، ولا انقطاع الدعوة، ولا القعود عن إحياء الأمة.
إن الأمة الآنَ في مرحلة “المُلك الجبري والطواغيت” ويجري -بصورةٍ مُمنهجةٍ -عمليةُ تجريفٍ روحيٍّ، وماديٍّ، وإنسانيٍّ لها من طريق، وإن العدو الصليبي واليهودي لا يترك وسيلةً لإفسادها إلا وفَعَل… هذا ليس تبريرًا لجُرم المجرم، ولكن إدراكاً للحال، وتوقعًا للمآل، وحمايةً من الصدمة عند ممارسة الدعوة.
الخلافة الراشدة
وإن المستقبل للخلافة الراشدة -إن شاء الله -كما جاء في الحديث الشريف، ونحن في تلك المسافة بين الحكم الجبري والطواغيت، وبين الخلافة الراشدة في:
عملٍ لا ينقطع، ودعوةٍ لا تنتهي، ورسالةٍ لن تموت.
وفي محاولةٍ لإدراك الفقه اللازم للمرور من المُلك الجبري إلى الخلافة الراشدة.
وفي محاولةٍ لإحياء الأمة، حتى تتحقق سُنة الله في تغيير ما بــ (القوم) فهي سُنة أمةٍ، وليست سُنةَ فردٍ.
وفي محاولة إحصاء وتحديد كل ما بأنفس القوم من تصوراتٍ وقيمٍ وموازينَ وأفكارٍ باطلةٍ، والعمل على استبدالها بالتصور الإسلامي الرباني الصحيح.
وفي محاولةٍ لمعالجة أمراض الاستبداد التي تُقعِد الأمة عن دخول أرضها المقدسة، كما أقعدت تلك الأمراض بني إسرائيل من قبل.
وفي محاولةٍ لنزع فتيل الشقاق والنفاق والسمعة والرياء، والمتاجرة بالكتاب، وبيع آياته بثمنٍ قليلٍ.
وفي محاولةٍ لتطهير القلوب من الغِلِّ، والحسد، والبغضاء التي تحلِقُ الدين، وتُفشل أي محاولةٍ للاجتماع والاعتصام بالكتاب.
وفي محاولةٍ للتقرب من الناس، وفهم بواعثهم، ونفسياتهم، وطبائعهم، وأفكارهم، وما آل إليه حالُهم، ونكون من الحب والحرص المجرد من أي مصلحةٍ ماديةٍ أو معنويةٍ بمكانٍ، ولا نَملُّ من دعوتهم مهما بلغ الأذى منهم.
وفي محاولةٍ لِتَبَيُّنِ كل سبل المجرمين، والمنافقين، وبيانهم للناس حتى يحذروهم.
وفي محاولةٍ لفهم مداخل النفوس، وأدوات التأثير، والتوجيه حتى نستغلها في دعوة الناس إلى الحق.
وفي محاولةٍ الإهابة بالأمة؛ لحمل رسالتها، وتحكيم شرع ربها، والإهابة بالاعتصام بحبل النجاة الممدود من الله ﷻ إليها… والنذير من أن عذاب الله واقعٌ ما له من دافعٍ، وليس للإنسان إلا ما سعى.
وفي محاولةٍ اختراق كل فئات المجتمع، وغرس بذور الرسالة، والحق، وإثارة الخير الذي في النفوس، وكبح جماح الشر.
وفي محاولة استنفار “كل” طاقات الأمة مرورًا بالمفكرين والمبدعين، وأهل العلم والمال والفضل، حتى ابتسامة الطفل الصغير، ودعاء الأم العجوز في جوف الليل.
وفي محاولةٍ للتمكن من القوة، فالحق المجرد من القوة لا يُغري أصحاب النفوس الضعيفة… وما أكثرهم!
وفي محاولةٍ لتهيئة الواقع والحياة وتطهيره من كل دَنَسٍ؛ حتى يكون مؤهلًا للدعوة.
وفي محاولةٍ لتربية النفوس، وتعبئة القلوب، واكتشاف الطاقات؛ لتحمِل دينها، وتقوم برسالتها.
وفي محاولةٍ لتأمين ما نستطيعه من حاجات الناس المادية، وعدم تحميلهم ما لا يطيقون، وتوفير ما يمكن من حياةٍ كريمةٍ لهم.
ومع كل هذه المحاولات، وقَدْرِ ما ينجح منها… لا نتوقع، ولا ننتظر إلا فضل الله ، ورحمته، بل ونتوقع آثار بقايا الجاهلية، وما تركته من انحرافاتٍ سلوكيةٍ ونفسيةٍ، حتى لا ييأس الداعية… أو يُصدَم بما لا يتوقعه! على أن الخير في أمة محمدٍ عظيمٌ، وفي جعبتها الكثير، وهي -والله -كنزٌ كبيرٌ يحتاج فقط إلى مَهَرَةٍ في فتح هذا الكنز… والله هو الذي يفتح القلوب.
وإن الأمة الآن:
ليست بحاجةٍ إلى أناسٍ -أياً كانوا -ليمارسوا عليها دور “الوصي”، فهذه صورةٌ تُوحي بالاستبداد لا تناسب ما تتأهل له الأمة من خلافةٍ راشدةٍ.
ليست بحاجةٍ إلى أناسٍ متعصبين “عصبيةً ذاتيةً وفكريةً” تجاه حزبٍ أو مذهبٍ أو جماعةٍ، بل بحاجةٍ إلى كامل الرسالة: بربانيتها، وشمولها، واتساعها، وواقعيتها، وإيجابيتها، وتوازنها، ومثاليتها؛ فالأمة لا يمكن أن تجتمع إلا على الكتاب، ولا يمكن أن تعتصم إلا بحبل الله، ولن تحصل على حقوقها بمعزلٍ عن دينها وكتاب ربها.
ليست بحاجةٍ إلى من يتهمها، ويقسو عليها، ويعيِّرُها، ويذلها… بل تحتاج إلى حنان الأنبياء، ورحمة الرسل، تحتاج إلى من يأخذها برفقٍ، ولينٍ، ويُفهمها بهدوءٍ، ويستمع إلى مشكلاتها بوعيٍ، ويقدم طريق العلاج عن علمٍ ومعرفةٍ.
ليست بحاجةٍ إلى من يحمِلُها على حقٍّ -لم تعرفْه من قبلُ -جملةً واحدةً، فلا تقوى عليه… فتتركه وتنفر منه !!
إن الأمة بحاجةٍ إلى:
إحياءٍ: بعد حالة الوفاة، يبدأ جنينًا ثم رضيعًا ثم طفلًا ثم صبيًا ثم شابًا يجدِّد للأمة دينها، ومكانتها، ورسالتها.
رحمةٍ: ترأف بحالها، وواقعها، ومشكلاتها، وقضاياها.
دفاعٍ: عن حقوقها، وثرواتها، وأرضها.
دعوةٍ: تُبيِّن لها الإسلام -في غربته الثانية -وتعيد روحه إلى الأمة، كما جاء أول مرةٍ.
سياسةٍ: تقتنص حقوق الأمة، وتنتصر لقضاياها، وتُعرِّف بها، وتحفظ مكانتها.
جهادٍ: يدفع كل طاغوتٍ، ومجرمٍ، ومعتدٍ.
فقهٍ: يُخرجها من حالة المُلك الجبري، والطواغيت.
عملٍ: بلا جزاءٍ، ولا شُكورٍ.
وحدةٍ: تجمع شتاتها، ودينها، ورسالتها، وأرضها.
رجالٍ: لا ينتظرون انتصار هذا الدين على أيديهم، بل يغرسون الرسالة في قلوب الأجيال.
مكونات الأمة (من الناحية الاجتماعية)
القاعدة الصُّلبة: وهم الرواد حمَلَة الرسالة، والعلماء الممسكون بالكتاب، والقادة الربانيون، والشباب المغروس في قلبه بذور الرسالة.
الكتلة الحرجة: هي الكتلة المستجيبة للرواد والعلماء والقادة، وتمثل بحجمها وحركتها “كتلةً حَرِجةً” في التغيير عندما تصل إليها يحدثُ “التحول” الاجتماعي.
التيار العام: وهو التيار الذي يؤيد عاطفيًا حمَلَة الرسالة، ولا ينشئ حركةً، وإنما يستجيب للحركة، وينزل الساحة بعد بدء المعركة. أو في وسطها.
عموم المجتمع: هو خليطٌ متنوعٌ واسعٌ، يستجيب بشدةٍ للتأثير الإعلامي، وأدوات التوجيه، وهو صعب الحركة، ضعيف الاستجابة، قد ينزل للمعركة في مرحلتها الأخيرة، ويشارك الأفراح والنصر، ويستجيب عندما يتم التمكين للرسالة.
الكتلة السلبية: وهي الكتلة التي تمكَّن منها المرض، وأقعدها التشوه النفسي… عن الاستجابة لشيء، فتعطلت أجهزة الاستقبال لديها. ولا تُمثل برأيها أي تأثيرٍ يُذكر؛ لأنها في الأساس سلبيةٌ.
أي محاولةٍ للقفز بين هذه الكتل، أو سوء التقدير في حجم كل كتلةٍ، أو عدم العمل على كل كتلةٍ عملًا دقيقًا ومناسبًا لدور كل كتلةٍ؛ يُفسد كل محاولات الإحياء والخروج بالأمة من الحكم الجبري إلى الخلافة الراشدة، ومن التيه والظلمات إلى الرشد والنور.
وإن كثيرًا من المشكلات الدعوية والحركية والفكرية، تحدث عندما يُخاطِب أحدٌ -مثلًا -“الكتلة السلبية” على أنها “الكتلة الحرجة” أو على أساس أنها “التيار العام” فيتوقع استجابةً لن تحدث؛ فتقع حالةٌ من اليأس والصدمة التي تنعكس على الأداء، وتحرق كثيرًا من الجهد والعمل!
ومن هذا الإيضاح لمكونات الأمة -من الناحية الاجتماعية -يظهر معنى مدلول “الشورى” ودرجتها، وأنها تصورٌ مرنٌ… وليس جامدًا -كالديمقراطية صاحبة عدّ الرؤوس -ولكن الشورى هي عدّ ما تحمل الرؤوس من رسالةٍ، وإنها -أي الشورى من ناحيتها الاجتماعية -تَحتسب درجات الكتلة الصلبة والحرجة والتيار العام وعموم المجتمع، ولا تنشغل كثيرًا بالكتلة السلبية…
ولكنها في ذات الوقت تعمل على إحياء جميع الأمة وتحويلها إلى “كتلةٍ صلبةٍ” وقاعدةٍ قويةٍ، ولا تتحول إلى “طبقيةٍ” تحافظ على “الحدود” بين الطبقات، وتحافظ على “امتياز” كل طبقةٍ، فهذه أوضح صور الجاهلية… أما الإسلام وتصَوُّرُه فيعمل على رفع الإنسان إلى أعلى مراتب الإيمان، ويُفسح الطريق للأكثر إيمانًا وعلمًا وعملًا… دونما اعتبارٍ لحزبه أو قومه أو جنسه. وبذلك يظهر بلاء الناس وعملهم وإتقانهم بطريق الواقع والعمل والتجربة،وليس بطريق دعايةٍ كاذبةٍ يدفعها صاحب المال ليشتري بها “سياسيًا دجالًا” يحافظ على امتيازات صاحب المال.
وإن القاعدة الصلبة: أيْ حمَلَة الرسالة لا ينقطعون -بفضل الله سبحانه -من أمة محمدٍ، وتظل طائفة تحمل الحق إلى يوم الدين، يقل عددها وتأثيرها نعم، لكن تظل باقيةً بإذن الله.
وإن الكتلة الحرجة: تمثِّل بعددها وتفاعلها “نقطة التحول” في حركة الأمة كلها، وإن العمل على إخراج الكتلة الحرجة هذه، والحفاظ عليها، وعدم الدفع بها قبل تمامها، وإعدادها الإعداد الكامل والتهيئة المناسبة لدورها؛ هو الذي يحفظ مسيرة الدعوة والجهاد، ويحفظنا كذلك من حروب الاستنزاف الغير متكافئة في معارك وهميةٍ جانبيةٍ.
والكتلة الحرجة والتيار العام نصل إليهما بعد حالة التشبع الاجتماعي من الدعوة، وطبيعة الاستجابة لها.
وإذا كانت الأمة اليوم تعيش في الشتات، وتحدها الحدود، والسدود… فإن هذا لا يمنع العمل ضمن مشاريعَ محليةٍ، وإقليميةٍ، وعالميةٍ لا تتصارع أو تتضاد بينها… وإنما تكون من التكامل والتوازن والمرونة ما تُحفظ به جميع الجهود في كل الاتجاهات… ويكون لجميع المشاريع “استراتيجيةٌ عالميةٌ” تتناسب وحجم ودور الأمة، وما ستُكلَّف به من مهام.
وبقَدْر ظلام الطاغوت، وبقَدْر عذابات الناس.
سيعود الإنسان… سيعود شديد الإيمان.
ستعود الأمة… ستعود شديدة الإسلام.
سنعود في اللحظة التي ندرك فيها حاجتنا لهذا الدين، وعدم التحول عنه إلى ما سواه… عندما نتذوق عظمة هذا الدين، والإيمان بقدرته على رفع ذكرنا في العالمين… عندما نؤمن حقًا أننا لسنا بحاجةٍ إلى غيره من مناهجَ وأفكارٍ.
عندما يأكلنا التيه، وتحرقنا الغربة، ويشتد بنا العطش… فتكون العودة لهذا الدين، أحب إلينا من الماء البارد على الظمأ.