بالعودة إلى "ربيع براغ" ..
حازم صاغيّة
19-01-2018 01:53 AM
قبل خمسين عاماً بالتمام، حل "ربيع براغ" الذي شكّل الضربة الموجعة الثالثة والأكثر إيلاماً لـ "المعسكر الاشتراكي"، بعد انتفاضة ألمانيا في 1953 ثم هنغاريا في 1956. بيد أنّ ذاك "الربيع"، على رغم هزيمته، أصاب ذاك المعسكر وآذاه في صورته وفي هيبته.
غنيّ عن القول، استطراداً، أنّ تلك المجادلة الشيوعيّة الشهيرة من أنّ الاتّحاد السوفييتيّ هو القوّة الضاربة الأولى "في مواجهة الإمبرياليّة" (إلى جانب الطبقة العاملة في الغرب الصناعيّ وحركة التحرّر الوطنيّ في العالم الثالث)، باتت أقرب إلى النكات البائدة والبائخة ففي 1968، حين ثار التشيكوسلوفاكيون سابقاً، على الشيوعيّة السوفييتية ونظامها، ثمّ سحقتهم دبّابات حلف وارسو، سقطت أوهام عدّة:
- سقط وهم "الاشتراكيّة ذات الوجه الإنسانيّ" التي رعاها ودافع عنها ألكسندر دوبتشيك، الأمين العامّ للحزب الشيوعي التشيكوسلوفاكي يومذاك، وتبدى بالتالي أن أي اقتراح كهذا لا مكان له من دون حريات وديمقراطيّة سياسيّة.
والحال أن هذا الدرس إنّما تكرر، بنتائج أخرى، بعد أكثر من عقدين في روسيا نفسها، مع تجربة الرئيس السوفييتي السابق ميخائيل غورباتشوف حين أراد الإصلاح والمكاشفة. هكذا فشل مسعاه لكنّ البناء تداعى برّمته وانهارت الإمبراطوريّة.
- وسقط كذلك الوهم القائل إنّ ليونيد بريجنيف، الأمين العام للحزب الشيوعيّ السوفييتيّ إبّان "ربيع براغ"، يمكن أن يحتفظ ببعض السياسات المنفتحة لسلفه نيكيتا خروتشيف.
لقد أتى الحدث التشيكوسلوفاكي، على العكس تماماً، ليبرهن أن البريجنيفية تكاد تكون أقرب إلى ردة نكوصيّة متأخرة نحو الستالينية، وأن أنظمة كهذه يستحيل أن تحضن انتقالاً سلمياً وتدرجياً لمصلحة الحريات وتوسيع نطاقها.
- وسقط أيضاً وهم ثالث مفاده أنّ الاتحاد السوفييتي قوة عالمية جبّارة. صحيح أنّ تلك الدولة التوتاليتاريّة كانت القوّة العسكريّة الثانية في العالم، وذات النفوذ المتمدّد على رقعة جغرافيّة هائلة في الأرض والبحار. إلا أن الرعب الذي كان ينتابها من أيّ تحرك شعبي في نطاقها الإمبراطوري، وردّها العنيف على أي مطلب مهما كان متواضعاً، إنما نما عن ضعف عميق لا يُستعاض عنه بأي جبروت عسكري أو أمني.
- أما الوهم الرابع الذي سقط، والذي يعود في أصوله إلى الأيام اللينينية والبلشفيّة الأولى، فهو أنّ الاتحاد السوفييتي سيتحول مصدر استلهام وقدوة للطبقة العاملة في أوروبا الصناعية والمتقدمة. لقد شكل قمع "ربيع براغ" بداية انهيار العلاقة بين موسكو و"مثقفي الطبقة العاملة" الأوروبيين، ودخول الأحزاب الشيوعية في أوروبا الغربية طور انحسارها الشعبيّ (الحزب الفرنسي) أو المراجعة والانقسام (الإيطالي).
وغني عن القول، استطراداً، أنّ تلك المجادلة الشيوعية الشهيرة من أنّ الاتّحاد السوفييتي هو القوّة الضاربة الأولى "في مواجهة الإمبرياليّة" (إلى جانب الطبقة العاملة في الغرب الصناعيّ وحركة التحرر الوطني في العالم الثالث)، باتت أقرب إلى النكات البائدة والبائخة.
- وأخيراً، انكشف وهم يتعلق بالقدرة على استئصال المعارضة الثقافيّة لنظام استبداديّ. فالقمع المادي والنفسي الذي تعرض له المثقّفون التشيكوسلوفاكيون، بما فيه التسريح من العمل والإحالة إلى المصحّات العقليّة والهجرة إلى المنافي والعزوف عن السياسة، بات مضرب مثل في تجارب الإخضاع الثقافيّ. مع هذا، لم يمر سوى عقدين حتى رأينا تشيكوسلوفاكيا المثقّفة تتعافى وتشارك بهمّة ونشاط في إسقاط نظامها البوليسيّ.
وباستعادة تلك التجربة وما كشفته من أوهام، يتبدى كم أن المهزوم يمكن أن لا يكون مهزوماً بالمطلق، بل يمكن أن يكون، على المدى الأبعد، منصوراً.
فبعد 21 سنة على "ربيع براغ" كان الانهيار المريع الذي ضرب الامبراطوريّة السوفياتية، فاتحاً للتشيكيّين والسلوفاك طريق سيطرتهم على حياتهم وتحكّمهم بها.24