حين نسرح في بحر الذكريات يخطر على بالنا تلك الايام الخوالي الجميلة المتجسدة في الصدق. والهدوء ،والطمأنينة ، وراحة البال، وبساطة الناس، ونقاء القلوب، وصفاء النفوس، واحترام الكبير، والالتزام بالقول والفعل، عدا عن المحبة الخالصة، والصداقة الطاهرة، والاخلاق النبيلة، والمعاملة الحسنة ،وليس كأيامنا هذه ، التي طغت فيها المادة ، وساد الكذب في كل شيء، وانتشر الخداع ، وغاب الحب ، وتلاشت الصداقات الحقيقية ، وانقرضت القيم الاخلاقية والانسانية.
فرحم اللـه ايام زمان حين كنا صغاراً في جيل الصبا والشباب نجتمع في فصل الشتاء بكل حب وغبطة وسرور ، ملتفين حول موقد النار ،ونشوي ونأكل ، ونستمتع بالقصص والخراريف والحكايات الشعبية ، التي كان يحكيها الأكبر منا سناً، ورحم اللـه ايام زمان عندما كانت امهاتنا يحضرن اكلات المفتول و الشيشبرك و البرغل و المجدرة وسواها من الاكلات الشعبية والتراثية فنملأ بطوننا الخاوية .
جميلة هي ايام زمان التي مضت، ورائعون هم الأشخاص قديما، كم كانت الحياة بسيطة وكم كنّا أكثر فرحاً ومرحاً ضحكاتنا كان صوتها أجمل، وعيوننا كان لها بريق خاص، قلوبنا كانت مضيئة، وأفكارنا نظيفة وأقل عدوانية، نحن الى تلك الأيام الجميلة. الى بساطتنا القديمة، وشخصياتنا الحانية التي تبعثرت مع هموم الحياة وتغيرت ملامحها بل ملامحنا أيضاً، نشتاق في لحظات لارتشاف كأس شاي مع صديق بريء لا هدف له سوى اسعادنا، أصبحنا مجرد أسماء مزيفة على شبكة الانترنت، بلا صدق ولا مشاعر، مجاملات كادت تقتلنا بعد أن قتلت كل جميل فينا، أصبحنا كالروبوتات نتحرك دون أن نلتفت حولنا، نمضي وتمضي بنا الأيام دون أن نشعر بلذتها، دون أن نرسم ذكريات جميلة مع أحبابنا، وكأن الزمن توقف، لكن ملامحنا لم تتوقف معه، ستتغير وسترسم التجاعيد على جباهنا، وستنحني ظهورنا يوماً وتصبح قدرتنا على الحركة أقل ونحن لازلنا نقف في أماكننا، سيشيخ الزمن ونشيخ معه، وفي قلوبنا أبواب مقفلة لم نفتحها للحياة التي تتنظر، فكم جميل أن نلتقي بمن شاركونا البدايات ورسمنا واياهم خطوطنا الأولى، فحين تلقى صديقاً قديماً يعيدك الى طفولتك أو شبابك الذي مضى ستشعر بجمال نفسك قديماً، ستتعامل معه كما كنت وليس كما أصبحت ، وهذا هو قمة الوفاء للزمن ..
افتقدتُ أحبتي وصحبي في وطن السعادة الأكيدة بمنأى عن ديارهم بمسافات بعيدة .افتقدت جلسات كانت تجمعنا في ألفة وود العشيرة كلهم غابوا حتى من كان سندا وعزوة بقوة عتيدة . أفتقدهم أفتقد أشياء وأشياء كثيرة وأحلام امرأة حالمة بسهرها وحيدة تشتاق للحب للصبح المشرق ، بشمس وليدة مع الفجر تنتظر المساء ليعود صخبهم بالقرب منها بشوق لها ولكلمات طيبة رقيقة ، أفتقد الجمال في روح إنسانية والأمل لينير ليال عصيبة عصية في لحظة غابت فيها شمس الحرية ، وفي يوم ملبد بالغيوم الماطرة بجليد قطبي مثل زمهرير في أيام شتوية ننتظر سماءنا تمطرنا بالغيث والحرية، كنا نعتصر الما لدماء سالت زكية ونشتاق لمن حملوا همنا منذ ولادتنا بفلسطين الحبيبة، افتقد اخي وأختي وأمي وهدايا أبي وحنانه وأنا طفل منسي وجمعة كنا فيها نلتقي مع وليمة مطهية ، افتقدت البسمة الصادقة النقية وقلبا أبيضا كثلوج بيضاء أبية ، أفتقد الورد والريحان العبق برائحة زكية، أفتقد الفرح المفقود وأعراسا فلسطينية أطوق لحرية الأقصى وعقيدة نرجسية، أفتقد الطمأنينة والراحة النفسية، والركوع بخشوع في صومعة العبودية لله وحده دون الخلق والبرية، أفتقد ساعة صفوة مع طيور البرية أتأمل الجمال بإبداع ربي بالكون و البشرية ، أفتقد الحب الصادق والدفء في الليل وبرد الشتوية، أفتقد كل جميل في أيام ماضية ندية ، أفتقد الطيب في نفوس البشرية، وأفتقد صدق التعامل بإنسانية، أفتقد كل رائع بأيامنا الخوالي الندية، أفتقدك يا قمري فهل سيكون لنا لقاء ببرية بصحراء خاوية دون حساد ، أفتقد طفولة مضت بعفوية وعنفوان شبابي حين كنت صبية ولهوي ولعبي مع جيراني ، أفتقد الرقص بأيام العيد بحرية، وأفتقد قلبا نقيا يصدقني القول بأخوية، أفتقد كل من له بصمة بحياتي النرجسية .. فهل تعود تلك الايام الخوالي ؟ هيهات وهيهات! فذلك حلم بعيد المنال. فالزمان لن يعود الى الوراء ، والقادم والآتي اشد وأصعب ، وأكثر تعقيداً وتوتراً وضغطاً نفسياً واقتصادياً....