في مثل هذا اليوم، وقبل قرن من الزمان، تدلى رأس جمال عبدالناصر من رحم فهيمة محمد حماد في شارع قنوات في حي باخوس في الاسكندرية.
وهذا المقال ليس ساحة أستل فيها قلمي من غمد بنات أفكاري لأدافع به عن جمال بكيل المديح له أو لأهاجمه به بسيل من القدح والردح، لكن ولأن المنطقة تمر بظروف استثنائية في ظل تداعيات قرار ترامب اللعين؛ فإنني أريد أن أخط بريشة يراعي على هذه الصفحات البيضاء حبرا من العبر التاريخية التي تكتنز بها محبرة تجربة جمال عبدالناصر السياسية في إطار الحق العربي الفلسطيني.
ولعلني لا أجانب الصواب إذا ما قلت بأن السؤال الذي يرمي بكل أحماله وأثقاله على أفكارنا الهائجة المائجة في غمرة معمعة ردود الفعل الغاضبة على قرار ترامب المشؤوم أكثر من أي سؤال آخر هو: كيف؟
كيف يصلي كل واحد منا كمسلم في الأقصى؟ كيف يصلي كل واحد منا كمسيحي في كنيسة القيامة؟
يقول الفيلسوف الألماني نيتشة: الحق للقوة. ومن البديهي ألا يؤخذ هذا القول كمبدأ عام يطبق بحذافيره في مختلف مناحي الحياة السياسية؛ فلا يوجد هناك مبدأ عام صالح بالمطلق لكل زمان ومكان، لكنني أريد من هذا القول أن يكون نبراسا لنا في طريقنا نحو القدس، أي إنني أضع قول صاحبنا الفيلسوف في إطار زمني مؤقت تحت شعار: الغاية تبرر الوسيلة.
وأية قوة هذه التي ترعب العدو الصهيوني أكثر من غيرها من القوى الأخرى؟
قبل الإجابة على السؤال أود أن أشير هنا إلى أن الغاية من هذه القوة ليست لرمي اليهود في البحر كما أراد جمال عبد الناصر، ولا لحرق نصف العدو الصهيوني كما هدد صدام حسين؛ إنما لتجعلنا نحن العرب سادة فلسطين بمن فيها من يهود ومسيحيين ومسلمين.
ولكي نعرف ماهية القوة التي تقض مضاجع العدو الصهيوني، وتهز أهداب جفونه، وترعد فرائصه، لنقرأ معا في كتاب: (جمال عبدالناصر آخر العرب) لمؤلفه سعيد ابو الريش ص88: "قال وزير الدولة في وزارة الخارجية البريطانية السابق، أنطوني ناتنغ، لرئيس وزراء (إسرائيل) ديفيد بن غوريون بأنه يحمل إليه نبأ سارا وهو إن عبد الناصر مهتم برفع مستوى معيشة المصريين أكثر من اهتمامه بشن حرب على (إسرائيل). فنظر بن غوريون إلى ناتنغ قائلا: هل تسمي ذلك نبأ سارا؟".
إذا القوة التي تمثل أخطر كابوس يجول ويصول في تلافيف ألباب الأعداء الصهاينة هي تلك القوة الرافعة لمستوى المعيشة في كافة المجالات إلى أعلى مستوى ممكن، الاقتصادية على رأسها، والعلمية من أهمها. أي أن القوة التي أشار إليها جمال عبد الناصر في مقولته الشهيرة "ما أخذ بالقوة لا يمكن أن يسترد بغير القوة" ليست وحدها التي تثير الرعب في صدور الأعداء الصهاينة.
وفي سياق الحديث عن وجهة نظر جمال عبدالناصر في نوع القوة التي تعيد له ما أخذ منه، أجد من المناسب هنا إعادة طرح سؤال كنت قد طرحته قبل نحو عشرين عاما في إحدى الندوات التي أقيمت في الاتحاد العام لطلبة الأردن/ فرع البصرة، في العراق: إذا كان لدى جمال عبد الناصر آنذاك القوة التي تكفي لاسترداد ما أخذ منه بالقوة؛ فلماذا لم يستخدم هذه القوة؟ وإذا لم تكن لديه مثل هذه القوة؛ فلماذا نطق هذه الجوهرة؟
أجاب أحد المشاركين في تلك الندوة على سؤالي هذا بقوله: "إن جمال عبدالناصر كان لديه مثل هذه القوة، لكن العرب خذلوه".
ربما كان زميلي مصيبا في إجابته، وربما كان مخطئا، بيد أنني أعتقد ان الإجابة على هذا السؤال كامنة في طيات السطور الواردة في ص387 من الكتاب نفسه المذكور سابقا: "فإن عبدالناصر واجه الرافضين لقرار هيئة الأمم المتحدة رقم 242 ومهمة يارينغ للسلام، وطالبهم بالإعلان عن خططهم لهزيمة (إسرائيل). وعندما لم يكن لديهم، وفي مقدمتهم عرفات، أي جواب، فإنه واصل هجومه بقسوة. فقد ألح على أن يبلغوه ما إذا كانوا على استعداد للقتال في حرب طويلة، ووجه إلى كل منهم أسئلة عسكرية محددة حول قوتهم العسكرية".
إذ تجدني أسبر أغوار كلمات جمال عبدالناصر وأسئلته هذه؛ فإنني أصل إلى أن القوة وحدها إن وجدت وبغض النظر عن حجمها وعن نوعها: عسكرية كانت أم اقتصادية لا تكفي لاسترداد ما أخذ بالقوة ما لم تحتويها وتوجهها خطة واضحة الأهداف ضمن خارطة طريق ذات معالم بينة وملامح مرسومة بأدق التفاصيل، وهو ما اعترف به جمال عبدالناصر بأنه لا توجد لديه خطة لتحرير فلسطين كما ورد في الكتاب نفسه المذكور آنفا ص135.
إذن، وفي الذكرى المئوية الأولى لميلاد جمال عبدالناصر، فإن خلاصة تجربته السياسية في إطار الحق العربي الفلسطيني هي: لا بد أولا من وضع خطة لتحرير فلسطين، هدفها الأول: التفوق على العدو الصهيوني في مجال مستوى المعيشة.