في مرحلة ما قبل الإنترنت والتلفونات الذكية وربما قبل انتشار التلفزيون شعبيا، كانت تماريننا اليومية ولعبتنا ومدينة ملاهينا هي المبارزات الشعرية. آنذاك كان ابتكار المصباح الكهربائي ما يزال ساخناً، ولم يكن قد وصل إلى بيوت حارتنا كلّها بعد.
كانت المبارزة تبدأ بأن يلقي أحد الأنداد بيتاً شعرياً، وكنا في أغلب المرّات، نقرأ بيتاً شعرياً عرمرميّاً يقول:
العرب خير أمـّـــــــة
من شكّ في قوله كفر
كنا نقرأ كلمة (العرب) بضم العين وتسكين الراء، ناهيك عن تسكين آخر كلمة (قوله)في الشطر الثاني، كل ذلك لغايات استقامة الوزن .. وهذا هو الدرس الأول الذي كنا نتلقاه في عدم تفهم الآخر وتكفيره فوراً و بلا وازع ضمير، لمجرّد أنه(قد) يفكّر في التشكيك في ما نعتقد .
نرجع للمبارزات الشعرية، إذ على المتسابق الثاني، أن يلقي بيتاً شعرياً يبدأ حيث انتهى البيت الأول، وفي هذه الحالة كان عليه أن يلقي بيتاً شعرياً يبدأ بحرف الراء .. وتستمر المبارزة سجالاً إلى أن يعجز أحد الفرقاء عن إلقاء بيت شعري يتناسب أوّله مع آخر حرف من البيت الذي ألقاه المتنافس الآخر .. فتنتهي المباراة .
عدا كلمة (مكرّر) أو كلمة (قيل)، التي كانت تقال في حال قال أحد الفرقاء بيتاً شعرياُ كان قد قيل سابقا ً خلال هذه المباراة بالذات، عداهما كانت كلمة (محبوك) هي أكثر الكلمات اللاشعرية التي تقال خلال المباراة، وهي تبدو وكأنها إطلاق نار تعسفي على مجمع أعصاب من يلقي البيت الشعري.
كلمة محبوك تعني أنّ الحرف الأول من صدر البيت الشعري هو الحرف الأخير ذاته في عجز البيت الشعري، مثل أن تقول :
برقت لــــــــه مسنونة تتلهب
أقوى من القدر المتاح وأغلب
و هذا عيب شعري مرفوض خلال هذا النوع من المسابقات، لكننا كنا لا نتورّع عن الوقوع فيه عن قصد أو عن غير قصد، لكننا كنا ننكشف في أكثر الأحيان، فيجبرنا المتسابق الآخر على إلقاء بيت شعري آخر، وهنا كنا نلجأ إلى تأليف عدة كلمات لكأنها بيت شعري حقيقي، ولا يملك الآخر القدرة على تقطيعها عروضياً والحكم عليها، فتمر الأزمة بسلام (مؤقتا ً) إلى أن تنتهي المباراة لصالح أحد الفريقين .
انتهى عصر المباريات الشعرية، وألقينا سنين العمر على قارعة طريق الحياة، وما زلنا نحاول الخداع، عن قصد أو عن غير قصد، في عالم صار محبوكاً من كل الاتجاهات.
الدستور