يجري تصوير مشروع “الاعتراف بدولة فلسطينية تحت الاحتلال” بوصفها عنواناً لإستراتيجية الرد على قرار ترامب بخصوص القدس، وربما تكون دعوة المجتمع الدولي لمثل هذا الاعتراف، هي النقطة المركزية الوحيدة التي ستتمحور حولها نتائج اجتماعات المجلس المركزي الفلسطيني الذي يبدأ أعماله اليوم، بكلمة وصفت بالهامة والمفصلية للرئيس الفلسطيني محمود عباس.
رهان الفلسطينيين ينعقد على فرضية أن الدول الـ 128، التي صوتت لصالح مشروع القرار الفلسطيني – العربي – الإسلامي حول القدس، ستشكل الخزان الذي ستنهل منه “الدولة تحت الاحتلال” الاعتراف بها... وفي معرض الحماسة للفكرة، يدور الحديث عن دولة على حدود الرابع من حزيران، وعاصمتها القدس؛ ما يعني إبطالاً فعلياً لقرار ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل سفارة بلاده إليها.
في كل الظروف والأحوال، ستحظى “الدولة تحت الاحتلال” باعتراف غالبية وازنة من دون العالم، سبق لها وأن اعترفت بدولة فلسطينية أكثر من مرة منذ إعلان الاستقلال عام 1988 وحتى الاعتراف بالدولة “غير العضو” قبل أعوام قلائل ... والرهان الآن منصبٌ بشكل خاص حول كيف ستكون مواقف العواصم الدولية الوازنة مثل: الخمس الكبار، وألمانيا، وغيرها من دول العالم الكبيرة والمتوسطة، باعتبار أن الموقف الأمريكي معروف بعناده ورفضه، وانحيازه الكامل لإسرائيل عموماً، ويمينها المتطرف على نحو خاص، في زمن إدارة ترامب.
ما الذي سيرتبه اعتراف العالم بـ”الدولة تحت الاحتلال”، طالما أن إسرائيل المدعومة بشكل مطلق من واشنطن، لا تخضع لمقتضيات القانون الدولي وموجباته؟ ... ألم يعترف مجلس الأمن الدولي (القرار 1515) بحق الفلسطينيين في دولة؟ ... ألم تدع قرارات المجلس والجمعية العامة وخريطة الطريق لإنهاء الاحتلال الذي بدأ عام 1967؟ ... ألم تبطل القرارات الدولية وأحكام محكمة العدل الدولية، الإجراءات الإسرائيلية الاستيطانية في القدس والضفة، من جدار ومستوطنات ومحاولات تغيير الواقع القانوني والتاريخي للقدس والأراضي المحتلة، باعتبارها باطلة وكأنها لم تكن؟
فيض القرارات والاعترافات الدولية الخاصة بحقوق شعب فلسطين، حتى وإن أضيف إليها قرار أممي جديد بخصوص “الدولة تحت الاحتلال”، لم يوقف الاستيطان الإسرائيلي على الأرض ولم يعرقله، بل ولم يحل دون انتقال الموقف الأمريكي من التنديد بالاستيطان واعتباره غير شرعي وعقبة في طريق السلام، إلى موقف لا يرى تناقضاً بين السلام والاستيطان، ويعتبر الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة الأمريكية إليها، خدمة لعملية السلام، وتسهيلاً لوصول الطرفين إلى اتفاق ينهي هذا الصراع مرة واحدة وإلى الأبد.
لن نجادل في جدوى وجدية التوجه إلى المنتظم الدولي، و”الإكثار” من القرارات الدولية المدينة والمنددة بالسياسات والممارسات الإسرائيلية، والمكرّسة للحق الفلسطيني على الأرض الفلسطينية ... لكننا ننظر للمسألة برمتها، بوصفها حلقة واحدة من ضمن سلسلة من الحلقات، وخطوة من ضمن رزمة من السياسات والإجراءات الفلسطينية، التي يتعين أن تنتظمها إستراتيجية وطنية شاملة لمواجهة الاحتلال، وليس بوصفها عنواناً وحيداً، أو رئيساً لهذه الإستراتيجية، فما قيمة أن تنتصر فلسطين على اللوحة الالكترونية العملاقة المعلقة على جدار الأمم المتحدة، فيما جدران التمييز العنصري والضم الزاحف، تواصل قضم الأرض والحقوق والمقدسات؟
لا قيمة لهذا الاعتراف الدولي، إن لم يرتبط بإخضاع الدولة العتيدة وإقليمها المحتل لنظام “انتداب دولي” لفترة انتقالية، ينتهي خلالها الاحتلال، ويُمَكن الشعب الفلسطيني من ممارسة حقه في تقرير مصيره ... لا قيمة لهذا الاعتراف، إن كان مدخلاً للدوران التائه، في الحلقة المفرغة ذاتها، والتي تبدأ بتقديس “التنسيق الأمني” مع الاحتلال، كما اتضح في أعقاب عملية نابلس والجدل بشأنها، ... ما قيمة مثل هذه الاعتراف، فيما مختلف عناصر “الدولة” و”العودة” و”العاصمة” و”السيادة” و”الإقليم”، تفرُّ من بين أصابع الفلسطينيين، كما تفر “خيوط الشمس” من بين أصابع الأطفال التي تطاردها بلا جدوى ولا توقف؟
ليذهب الفلسطينيون حتى نهاية الشوط في استنفاد كل ممكنات المنتظم الدولي والمؤسسات والأجهزة التابعة له، فتلكم ساحة لا يتعين تركها للإسرائيليين والأمريكيين ... ولكن ليعلم الفلسطينيون قبل غيرهم، وأكثر من غيرهم، أن حقوقهم تصان على الأرض وفي الميدان، وليس من على منبر الأمم المتحدة ولا مجلس الأمن، وأن معاركهم الكبرى تخاض في رام الله وغزة وخانيونس ورفح ونابلس والخليل وجنين، وليس في نيويورك وجنيف وبروكسيل ولاهاي، وأن النتائج الحقيقية للمعارك على الساحة الدبلوماسية والحقوقية والسياسية، ليست سوى رجع صدى للمعارك الحقيقية، الأكثر جدوى وجدية، على خطوط التماس مع الاحتلال والاستيطان والعنصرية.
الدستور