عندما يتناول كاتب صحافي بالنقد الرواتب, لجهة علوها وتعاليها, للوزراء والنواب, وغيرهم ممن أوقفوا حياتهم على "الخدمة العامة", والتي يقترن بها كثير من الامتيازات, يمكن أن يُفسَّر موقفه,أي نقده, على أنه نتيجة شعوره بالغيرة والحسد.. و"الحقد الطبقي"; وقد يُشهر عليه سؤال "إذا ما قُيض لك أن تصبح وزيرا أو نائبا, فهل تترفع عن الراتب, وعن امتيازات الوزير والنائب, وعن المطالبة به وبها?".
هذا السؤال ذكَّرني بقول للفيلسوف الألماني الكبير نيتشه قاله في الفساد, إذا ما صح أن تلك الرواتب والامتيازات مظهر من مظاهر الفساد الإداري. لقد قال نيتشه إنَّ البشر, ولجهة علاقتهم بالفساد, على فئتين: فئة فسدت وأفسدت, وفئة تنتظر, أي لم تتهيأ لها بعد فرصة الفساد!
إنها "البيروقراطية", وما أدراك ما "البيروقراطية"..
"البيروقراطية" هي مرض الانفصال.. انفصال "خُدَّام الشعب" عن الشعب, عبر الرواتب والامتيازات, التي بفضل جاذبيتها التي تعدل جاذبية "الثقب الأسود" تولدت الحاجة واشتدت إلى الخطاب السياسي والانتخابي الذي فيه من الوعود الزاهية الجذابة, ومن التودد والتحبب إلى الشعب والناخبين, ما يجعله كطُعم في صنارة.
ولو كان المنصب العام, والذي يسمونه الخدمة العامة, فقيرا, مُفقَرا, في جاذبية الراتب والامتيازات, لما سعى إليه إلا كل من أراد حقا خدمة الشعب المنزهة عن متاع الغرور, ولشفي الخطاب السياسي والانتخابي من مرض الانفصال بين القول والفعل.
قرأتُ كثيرا عن "البيروقراطية", ومثالبها, وعن أسباب هذه الظاهرة, ونتائجها, وعن سبل ووسائل مكافحتها.. والقضاء عليها.
إنني لا أدعوكم إلى أن تنظروا إلى "البيروقراطية" ببصر ماركس وبصيرته, فالله لا يكلف نفسا إلا وسعها; ولكنني ادعوكم فحسب إلى أن تتخيلوا النتائج والعواقب المترتبة على إقرار قانون للخدمة العامة, يُحظر بموجبه أن يتقاضى النائب, أي خادم الشعب وممثله, راتبا يزيد عن متوسط الراتب في مجتمعه, ويُسمح, بموجبه أيضا, للناخبين, بخلعه, في أي وقت, إذا ما أساء التصرف, أو أساء استعمال ما مُنح له من سلطة ونفوذ.
لو تحقق هذا, أو شيء منه, لتعذر على أي نائب أن يتصرف بما يؤكد أنه ينظر إلى الصوت الانتخابي على أنه يشبه كوبا من الكرتون أو البلاستيك, يستعمله مرة واحدة فحسب, ثم..
النائب يماري في صحة التهمة الموجهة إليه, قائلا إنه يريد تأدية الخدمة العامة على خير وجه, ويشري نفسه ابتغاء مرضاة الشعب; ولكنه قبل ذلك, ومن اجل ذلك, لا بد له من أن يتقاضى راتبا, حجمه من حجم المسؤولية الملقاة على عاتقه, وأن يحصل على ما يفي بهذا الغرض من امتياز الإعفاء الجمركي, وغيره من الامتيازات, ومن الألقاب الرفيعة.
ولو سئل عن الحكمة الكامنة في هذا الرغد من العيش, والذي هو توأم شظف العيش الذي يقاسي منه الشعب في هذا الزمن الاقتصادي العالمي الرديء, لأجابك على البديهة قائلا إنَّ استقلال السلطة التشريعية يظل وهما خالصا, ولن يغدو حقيقة واقعة, ما لم يحرز النائب شخصيا استقلالا اقتصاديا عبر الراتب والامتيازات..
وبفضل النيابة والوزارة, وقِصَر العمر الوظيفي (والذي يقوم على مبدأ "مُرْ ودعْ غيركَ يَمُر") لكثير من النواب والأعيان والوزراء, ونظام الرواتب والامتيازات, ينمو جيش من ذوي الامتيازات, فهل للذين يحصون علينا أنفاسنا أن يحصوا لنا الوزراء والنواب السابقين والمتقاعدين?!
إنها "الخدمة العامة", وما أدراك ما "الخدمة العامة"..
ويشارك القطاع الخاص في لعبة الخدمات المتبادلة, فمن القطاع الخاص يأتي كثير من الوزراء, وإليه يعودون بعد الانتهاء من الخدمة العامة, والتي في أثناء تأديتهم لها لا ينسون تبادل المنافع مع هذا القطاع.
إنهم, في البرلمان, يخدمون الشعب بما يعمق ويوسع الانفصال بينهم وبينه, وبما ينمي ويسرع التداخل بين السلطة التشريعية والحكومة والقطاع الخاص.
jawad.bashiti@alarabalyawm.net