مصطلح الإعلام البناء (constructive media) بدأ مطروحاً بشدّة من قبل منظمة الأمم المتحدة وصنّاع القرار ومن مفكرين وإعلاميين. فالإعلام المعاصر، أو الجديد، الذي يستند على منصّات التواصل الاجتماعي بشكل رئيس، بات يتمتع بمجموعة من الخصائص وهي التفاعلية والإلكترونية والرقمية والتنوّع والقدرة على التخزين والتركيز والاندماج وهو إعلام كوني قابل للترجمة الفوريّة عبر محرّك البحث "غوغل "أو في نفس اللحظة (ترجمْ) وسعة الانتشار والمرونة واللاتلازمية والتزامنية والفردية (إعلام المواطن) والتكاملية. هذا الواقع فتح المجال أما دعوات كثيرة إلى المسؤولية الاجتماعية وإلى ((إعلام بناء)) وليس هدّاماً.
المشكلة في الإعلام الجديد هي في كثرة المعلومات وعدم الالتزام بوقت المعلومة وعدم التقيّد بالمصدر أو المرسل، والتفاعلية المستمرة، والمحتوى المتوالد بسبب الإضافة أو الحذف منه. إذاً، نحن أمام ظاهرة الانقلاب على مقوّمات الخبر أو العناصر الخبرية. فـ ((ابن خلدون)) الذي صاغ عناصر(أسئلة) الخبر الخمسة (من، متى، أين، ماذا، لماذا؟) لو عاش حتى يومنا هذا لقلب أفكاره بخصوص الأخبار التي صارت مُتلوّنة أشبه بالدعاية الرمادية أو السوداء.
الإعلام التقليدي (القديم: الصحف والإذاعة والتلفزيون) فقد هيبته أمام صعود الإعلام الجديد (الإعلام الاجتماعي، ووسائل ومنصات التواصل الاجتماعي، والوسائط المتعددة ...) وانقلبت الموازين على أخلاقيات الإعلام. لم تعد أخلاقيات المهنة كلها تنسجم مع التقاليد الإعلامية الجديدة. نحن إذاً أمام مفترق طرق، ومن هنا بدأت الدعوات إلى "إعلام بناء".
صرنا نتحدّث عن إعلام بديل أو إعلام تفاعلي أو إعلام إلكتروني أو إعلام بناء أو إعلام اجتماعي، أو إعلام مجتمعي ... والخلط هذا، جاء بسبب تبادل الأدوار بين أطراف الاتصال، وصار المستقبل مرسلاً، وحدثت عملية دمقرطة هائلة للإعلام، وتبادل أطراف العملية الاتصالية الأدوار في بث الرسائل الاتصالية واستقبالها، وصار للمستقبلين دوراً كبيراً في صياغة المحتوى الإعلامي. من خلال النظم الرقمية أو الرقمنة (الديجيتالية) الهائلة. بالطبع دون التزام بقواعد الخبر أو التقري أو التحليل. والتدوين كيفما اتفق ودخول العامية على الصياغات أوجد لغة جديدة للإعلام المعاصر.
الحرية الفكرية والسرعة من أبرز خصائص الإعلام الجديد، ونضيف إلى ذلك القدرة الهائلة على الأرشفة والتوثيق، والبحث الذكي عبر محركات البحث والسرعة في التحديث الذي أحدث تطوّرات هائلة وفائقة السرعة على المحتوى الإعلامي.
ونضيف إلى ما ذكر، أن الإعلام الجديد كسر احتكار المؤسسات الإعلامية التقليدية الكبرى وأدى إلى أفول سيادتها وسطوتها. والإعلام الجديد ألغى الملكية العامة والخاصة للمعلومة، فلم تعد الأخبار حكراً على مؤسسات إعلامية بذاتها. وخدمت التفاعلية إلغاء الفوارق المكانية والزمانية بين صانع الخبر والمتلقي وبدأت مرحلة تبادل الأدوار.
أمام هذه التحديات والتغييرات التي حصلت لوسائل الاتصال والإعلام، ينبغي التأكيد على ما بدأنا به وهو "الإعلام البناء" البعيد عن التلفيق والتزوير والدعاية السوداء التي دفعت الشعوب إلى الحروب الكارثية، والبشرية إلى الكراهية والطائفية والإرهاب. فالكذب و"الفوضى الإعلامية والسياسية الخلاقة!" لم تخدم الشعوب ولا السلام. ولا يجوز الهرب والاحتماء من العزلة الأميركية بقفزات كارثية سياسية وتحويل الظالم إلى مظلوم وإفساد ضمائر الشعوب والدول والحكام. فالدعاية المدمّرة آن لها أن تهدأ وآن الأوان لوقف الحرب النفسية وغسيل الدماغ للأفراد والشعوب. وأخيراً، وقبل كل شيء، لا بد من إنهاء الاحتلال الأخير في العالم والانتصار للرواية الفلسطينية المنهوبة والمنكوبة وبدء مرحلة جديدة من العمل الإعلامي البناء.
وسائل الإعلام القادرة على صياغة القناعات والاتجاهات والمعتقدات للفرد والجماعات، سيكون بمقدورها بناء شخصية الإنسان وهوية المجتمعات. وبدلا من تحويل وسائل الإعلام إلى ماكينات دعاية قاتلة وداعمة للإرهاب، يمكن أن تلعب هذه الوسائل دورها، بشكل أفضل، في التنمية والبناء والتقدّم.
البناء للفرد والمجتمعات (من خلال وسائل الإعلام) يكون بتعزيز القيم الإنسانية الموحِّدة للبشرية، ودعم الحريات الديمقراطية والعدالة الكونية والتمسك بقيم التعددية والخصوصيات الهويّاتية (الوحدة في التنوّع) بالابتعاد عن الإقليمية والطائفية، وضرورة احترام القوانين والدساتير وتشجيع عمل منظمات المجتمع المدني والعمل الأهلي والمنظمات الجماهيرية وتعميم احترام المصداقية والموضوعية والاستقلالية ومحاربة الفساد والانتهازية ودعاية الكراهية الداعية للإرهاب.
ختاماً، دور الإعلام بين البناء والهدم، ومدى ارتباط حرية الصحافة والإعلام في عملية بناء الدولة والدور في البناء التربوي والثقافي للإعلام وتوظيفه في بناء السلام الأهلي والمجتمعي وبناء ثقافة الديمقراطية وبناء الشخصية الوطنية وبناء الوحدة وتدعيمها. إن هذا الدور الكبير كله يسلّط الضوء كثيراً على خصائص "الإعلام البناء"، وعلى المواصفات التي ينبغي أن يتحلّى بها هذا الإعلام كي يقوم بوظيفته على أكمل وجه.
(د. تيسير مشارقة / جامعة البترا / كلية الإعلام)