صدر الملك الواسع ليكن أسوة للمسؤولين
د.مهند مبيضين
09-01-2018 01:32 AM
خلال سنوات الربيع العربي، كان جلالة الملك عبدالله الثاني مثالاً في الصفح، ومثالاً في النفس العالية التي ترى اكتمالها في الحلم وسعة الصدر، وحمل الناس إلى العفو أكثر من حملهم إلى العقاب، آنذاك رفعت شعارات خارقة، كلمات لا يتحلمها احد، قيل كثير واشيع كثير، فما كان من الملك إلا الصفح عن كل ذلك.
هذا السلوك لم يكن ضد نقد لسياسة ما، أو لقرار ملكي، بل نتيجة تخبط البعض وتجاوزهم الحدود الشخصية ضد جلالة الملك وعائلته، وماذا كانت النتيجة؟ لقد اصبح الأردن مثالاً حيّر العالم في كيفية تجاوزه مخاطر الربيع العربي ومهالكه، وهو حصيلة مدرسة الحكم الهاشمي التي تشع نبلاً.
اليوم للأسف نشهد بعض المسؤولين العامين في وزارات ومؤسسات عامة، يواجهون نقد الأفراد لسياساتهم، برفع القضايا على الناس، وجرهم للمحاكم، كأنهم لا يريدون أن يقول أحد لهم أن قراركم هذا، أو سياستكم هذه تحتمل الخطأ، كأنهم يريدون من الناس أن يدبجوا بهم احسن القصائد مدحاً فقط فيما يفعلون.
هنا لا نتحدث اطلاقا عن الاساءات والاشاعات الشخصية فهي مرفوضة جملة وتفصيلاً، بل عن نقد الأداء والقرارات في المؤسسات؛ لأن النتيجة قضايا وقضايا،، والسؤال لماذا لا تكون المواجهة بالعمل الجاد والشفاف، والذي يؤسس لدولة العدالة؟، وهنا لا يحق لأحد الاعتراض، كيف يمكن لمؤسسة حكومية كبيرة، أن تضع رأسها برأس موظف، أو ناشط مع حقوق منتسبي المؤسسة، وترفع دعوى ضده، فتكرس همها وجيش المدافعين عنها بارسال المقالات وبثها مدحا بالقرارات.
تكبر المؤسسات حين يكبر مسؤولوها، وتصغر حين يصغر المسؤول فيها، ولا نقول أن الباب مفتوح لكي ينال ذوو القلوب السوداء أو المقصرون بعملهم، من الشخصيات العامة والطعن بشخوصهم أو التجاوز على عائلاتهم فهذا قد يقع من البغيضين، وهو عيب، ويجب مواجهته بالقانون، لكن الفرق كبير بين نقد المؤسسات بسياساتها، والتهجم والتجريح والذم ضد الأشخاص، فنقد الأداء أمر مباح وجيد ويحسن الأداء، والرقابات الشعبية وعبر النقابات أو الحملات التضمانية أحد سبل الرقابة المعروفة عالمياً وتؤسس للترشيد في الإدارة.
قد يقول البعض يكفي في زمن الفيسبوك المسامحة، نحن دولة قانون، نقول: صحيح، فهناك من يسب ويشتم، فلا تتركوا من يسب ويشتم شخصاً دون ممارسة القانون ضده؛ لكن الأمر متصل بما يحدث من نقد لسياسات وقرارات في إطار المؤسسات وليس في البعد الشخصي.
هناك سلوك غريب، لا يعكس إلا رغبة بالعنف باستخدام السلطة من قبل المسؤول الضعيف، وهنا نماذج مشرفة في تاريخ رجالات الوطن، يذكر أن موظفا بسيطاً أدعى على الشهيد وصفي التل أنه استدان منه، ولم يسده، فذهب وصفي للقاضي، وجلس امامه وبوجود المدعي، واعتذر القاضي على حضور الباشا، وانه لا يعقل ما يقوله المشتكي، رد عليه وصفي: أنه أعرف انك تعرف انه إدعاء، لكني اتيت لكي أؤكد لك أن الجميع تحت سلطة القضاء! وما كان من وصفي إلا أن اعطى المشتكي مبلغ عشرة دنانير وبأكثر مما أدعى، هذا نموذج يذكره الناس، لم يقل أحد أن وصفي هزمه موظف بسيط، أو كسر عينه، بل ارتقى وصفي وظلّ نموذجاً في الإدارة العامة وفي حياة الأردنيين وكبيرا في اعينهم .
موقف آخر رواه الدكتور عبدالسلام المجالي، كيف احتج عليه الطلبة حين رفع الرسوم في أيام رئاسته الجامعة، وكيف اتاه الطلبة محتجين، قال لماذا تحتجون، وابني معكم، قالوا له أبنك ابو رئيس جامعة وراتبه يحتمل، قال: «طيب بخلي ابني يشتغل معكم، وأنا أيضاً»، وذهب ووقف مع الطلبة في غسل الصحون بمطعم الجامعة لأكثر من اسبوع لكي يعلمهم درسا في سبل المواجهة، ألم يكن بوسع د عبدالسلام جلب الشرطة إلى المعتمصين أو رفع قضية في من العرفية؟ لكنها الحكمة حين تحضر، يحضر المَخرج الطيب والمقنع، ويسلم الجميع، وحين تغيب تنهار الإدارة جراء المنافقين الحريصين على هيبة المسؤول المنزوعة أصلا، والتي يتفقدها صباحا أمام المرآة، لأنه لا يراها إلا هناك.
النماذج الطيبة في حياتنا الوطنية كبيرة، صفح الهاشميين ملوكاً عن المعارضة الجادة، والمنادية بالعدالة، وصفحهم عن المسيئين الذين ربما كان بعضهم مدفوعا للإسائة ضدهم، وهناك نماذج في الصفح والنزاهة أسست لهذا البلد، بكبرياء النفس وزهدها وسعة صدرها، هناك في سيرة فلاح المداحة ومحمد عودة القرعان ووصفي التل وعبدالوهاب المجالي ومحمود الكايد رحمهم الله وفي سيرة غيرهم أيضاً.
الدستور