درّاجة أطفال مكسورة، مغسلة مخلوعة، سجّادّة مهترئة، مقعد بلاستيكي بثلاث أرجل... محتويات نجدُ معظمها وأكثر ملقاةً غالباً على أسطح منازلنا، وقد تبقى هناك لعقودٍ دون حراك... وحين تسألُ صاحبَ الشّأن يكونُ الرّدُ في العادة « خلّيها... بتلزم ! «
خزائننا متخمةٌ كذلك بما يلزم وبما لا يلزم من ثياب، حتى أنَّ بعضنا قد يصرُّ على الاحتفاظ بقطعة قديمة تذكّره بمرحلةٍ من الرّشاقة والوزن المثالي، فيتركها مقنعاً نفسه أنّه لابدّ سيعود إلى وزنه السّابق ويرتديها... وتمرُّ على مثل ذلك الحُلُم عادةً سنواتٌ طوال !
وفي حين أنَّ جوَّنا مليءٌ بالغبار عادةً في معظم أيّام العام، تجدُ بعضنَا يصرُّ على رصفِ التّحف والتّذكارات والمُنمنات الصّغيرة هنا وهناك في الغرف، متناسياً حاجتهَا إلى التنظيف الدّائم حتى لا تتحوّل إلى مرتعٍ خصب لأكوام الغبار، ومتناسيّاً بالمقابل أنَّ النّظرَيعتادُ عليها تدريجيّاً مهما كانت جميلة أو ثمينة أو نادرة الوجود !
وثمّةَ عداوةٌ لا أعرفُ أسبابهَا العميقة بيننا وبين الفراغ داخل البيوت، وكأنَّ العينَ يجبُ أن ترتطم َبقطعة أثاثٍ أينما توجّهت، أم أنَّ شهوتنا التي لا تنطفىء للشّراء والتّكديس تحتاجُ عادةً إلى المزيد من الخزائن والأدراج، ربّما، لكن من منّا لديه الشّجاعة ليسألَ نفسَه: ماذا يحتاج من كلِّ ما يقتني ؟ وماذا يستخدمُ منها ؟ وإذا حدث واعترفنا، وقرّرنا التّخلّصَ من بعضِها، عدنا للقول: « خلّيها... بتلزم ! «
كما أنَّ ثمّة ميْلاً جارفاً لدى معظمِنا لشراء السّلع وتخزيِنِها لمجرّد أنّها رخيصة، أو عليها عروضٌ مغرية، ولا بأسَ إن أكلتها الرّطوبة والعفونة في زاوية مظلمة داخل البيت...
ويُجمعُ خبراء طاقة المكان « الفونج شوي» على ضرورة التّخلّص من أيّ غرضٍ في البيت مرَّ عليه زمنٌ ما دون استخدام، مبرّرين ذلك بالقول إنَّ تكديسَ الأغراض في البيوت يؤدّي إلى ركودِ الطّاقة الإيجابيّة فيها، وهذا بدورِه ينعكس على حالتنا النّفسيّة دون أن نشعر...
في السّياق ذاته، تجتاحُ دولةَ اليابان هذه الأيام ما يشبه « الموضة « أو التّسابق نحو تقليص المقتنيات الشّخصيّة إلى الحدّ الأدنى المطلوب والواقعي، صاحبُ هذا التوجّه شابٌ كان يحترفُ التّصويرَ الفوتوغرافي ويهوى الموسيقى، ليجدَ أنَّ شقّته ضاقت بعشرات الكاميرات التي لا يستخدمها، وبأعدادٍ من آلاتٍ موسيقيّةٍ لا يُتقن العزف عليها، إضافة إلى أكداسٍ من السيديهات المتنوّعة... فعانى من القذارة والارتباك في سكناه طويلاً، إلى أن تخلّصَ من الزّوائد جميعِها ليرتاحَ من الضّغط النّفسي والاكتئاب الذي عانى منه حين كانت تلك الفوضى تجثمُ على أنفاسِه ليل نهار، ولخّصَ تجربتَه في كتابٍ ألّفّه بعنوان « وداعاً للأشياء «... اعترفَ فيه أنّه يحبُّ الامتلاكَ مثلَنا جميعاً، لكنّه قاومَ تلك النّزعة فاستمتع براحةٍ لم يكن يعرُفها سابقاً وهو قابعٌ بسكونٍ وقهر تحت ما يقتني !
وعبّرَ عن إدارِكه لحقيقة أنّنا نتملّك عادةً لاعتقادنا أنَّ اقتناء الأشياء يولّدُ السّعادة لنا، ليجزمَ أنّه يولّدُ وهماً بالسّعادة ليس إلا، ولأنَّ كتابَه لاقى رواجاً هائلاً، وغيّرَ في مواقفِ آخرين وسلوكِهم في ذلك الشّأن، فقد أجمعَ من ساروا على نهجِه في تقليص الممتلكات الشّخصيّة على أنَّهم أصبحوا أكثرَ قناعة وأشدَّ امتناناً في حياتهم، إضافةً إلى أنّهم وجدوا أنَّ بإمكانهم خلقُ صلةٍ جميلةٍ بينهم وبين ما يمتلكون...
الخلاصة أنَّ كوكبَ اليابان، كما نحبّ أن نسمّيه، بات يذكّرُنا بقيمة الصّدقات، وبجمال الامتنان للنّعم مهما كانت بسيطة، ولم يبقَ سوى أن يقولوا لنا إنَنا لن نأخذَ شيئاً معنا لحظة الرّحيل إيّاها !