نحن جيل يعلم ان حياته وصيّة
يوسف عبدالله محمود
30-12-2017 11:52 AM
أُحبُّ المبدع الفلسطيني الراحل إميل حبيبي، لا أملّ من قراءة ما أبدعه قلمه، هو لا يتملق الحقيقة، لا يدور ويلف حولها، إميل حبيبي عاشق لفلسطين، لم يغادرها، توفي على أرضها.
في حكاية مسرحيته "لُكع بن لكع" ينفث هذا الكاتب الوطني ما في اعماقه من شجون ونقمة على أوضاع عربية ساهمت في مأساته ومأساة كل فلسطيني، يفعل ذلك بسخرية فيها المرارة.
يفتتح مسرحيته التهكميّة ذات الدلالات الانسانية المتوارية وراء "الكناية" والرمزية بأبيات الشاعر توفيق زياد رفقه في الدرب
"أناديكم أناديكم
أشدُ على أياديكم
ابوس الارض تحت نعالكم
واقول افديكم
فمأساتي التي أحيا
نصيبي من مآسيكم.
شخصيات مسرحيته تتناوب في أدوار مختارة لتصوير المأساة الفلسطينية منذ نكبة 1948 والى الآن.
شخصية "المهرج" فيها تكشف عن العوار الدفين الذي يعاني منه الواقع العربي كله. عوار ما زال يتفاقم ويتفاقم!
يخاطب المهرج مستمعيه مُردداً هذه الكلمات:
راح زمان الانتيكا يقيناً راح ولكن الانتيكا لم ترح
راح زمان الانتيكا وبقيت الانتيكا
أي ان العوار العربي ما زال موجوداً، لم يبرأ الواقع العربي منه، مُخترقاً نسيجه.
ويسترسل حبيبي في سرد أوجاعه وآهاته وغربته حتى داخل وطنه مستذكراً أبيات الشاعر العراقي بدر شاكر السيّاب:
آه يا ولدي البعيد عن الديار!
ويلاه!
كيف تعود وحدك لا دليل ولا رفيق؟
ما اقسى البعد عن الديار!
البُعد القسري عنا مُرٌّ، البعد عنها اغتيال للإنسان.
ولأن "مُهرِّج" اميل حبيبي كما أراده هذا المبدع طويل اللسان فقد راح يكشف هزال وخوف "المثقفين".
المهرج: "ذُعر الانسان المثقف من اعباء ثقافته، لقد تَفشّ هذا المرض في الشرق حتى أذاقنا الانفصام والموت الزؤام. ذعر الانسان المثقف من علمه بأنه إنسان".
هذا "الذُّعر" من اوجده غير الانظمة العربية المستبدة التي تخش الكلمة اذا جرؤت ففضحت عوارها! من اوجده غير السيف المسلط على الرقاب! وبحسرة وأس ونفاذ صبر ينفث المهرج ما في اعماقه. "اطمئنوا يا اولادي، تكتكنا وسنظلّ نُتكتك حتى تقوم الساعة!"
هذه "التكتكة" نهج عربي غير مقدس، من خلاله نداري عيوبنا!
ومرة أخرى يزفر "المهرج" زفرته الحرّى: "ملايين العناكب تنسج خيوطها حول رقابنا وافواهنا وانوفنا. تلتهمنا الاكاذيب، تفري لحومنا عن عظامنا ، وأما الصحف الحرة فتسلق هذه العظام حساءً". (مسرحية "لكع بن لكع"، ص 82، دار الفارابي/ بيروت).
وهو حين يشير الى "الصحف الحُرة" لا يخفي تهكمه منها، فهي في الحقيقة ليست حُرة. انها تبرر وتبرر العوار العربي!
ويستذكر مهرج اميل حبيبي بعض المجازر التي ارتكبها العدو الصهيوني حين احتل فلسطين.
المهرج: "اسمعينا يا دنيا، نحكي لكم عن احضان في بلادنا، اصبحت اضرحة، هل جاؤكم خبر كفر قاسم، ورقصة الموت في كفر قاسم؟"
ومرة اخرى يصرخ المهرج في وجه الزعامات العربية:
"اضيئوا الحقيقة!
اشعلوا الانسان!
اطلقوا السجية!
انطلقوا!
الجدع جدع
والجبان جبان!"
رحل اميل حبيبي ولم ترحل كلماته التي تخز الضمير العربي وخزاً
رحل من قال مُندداً بأعداء الانسانية:
"ما تركونا ننام كي نحلم باللقاء، وما تركونا نعيش بالصبر، حتى اللقاء، ايقظونا على مجرد البقاء، اصبح الصبرُ هو القبر، وعيشنا اصبح كله يقظة، مات اصعب العيش الذي كلُّه يقظة، ما اضيق العيش الذي يضيق عن الصب".
بدوري اقول لهذا المبدع الذي رحل، ما اضيق العيش لولا فسحة الامل! لن نفقد أمل العودة يا فلسطين، حلم "العودة" حلم سرمدي! او كما قال حبيبي: "نحن جيل يعلم ان حياته وَصيّة!"
"الوصية ان لا ننس وطناً دفن العدو ضحاياه في التراب ونسي أن هذه الضحايا بُذور! ضحاياك ايها العدو هي بذور.