هل يُصلِح الليبراليون ما أفسده الإسلام السياسي؟
د. موسى برهومة
28-12-2017 10:09 PM
لا يُحسَد أنصار التغيير وحمَلة مشاعل التنوير في العالم العربي على ما هم عليه. إنهم ينحتون الصخر بأظافرهم، في محاولة سيزيفية مفتوحة على كل الاحتمالات، وأوّلها، بل أكثرها رجحاناً، الإخفاق، لأنّ الداء تأصّل وتوطّن وبلغ مراحل ربما لا تُجدي في شفائها أعتى الأدوية!
وليس في الأمر استهانة بجهود أولئك الذين عزموا على ألا يستسلموا لرياح الاستئصال العاصفة بين ظهرانيهم تحت شعار المقدّس، كما أنهم يواجَهون في كل خطوة باستبسال السلطة للاحتفاط بمكاسبها، وعدم فتح الأبواب أمام نسائم «التغيير»، حتى لو كانت خفيفة ومنعشة. المهم بالنسبة إلى هذه السلطات، وبخاصة الاستبدادية، وما أكثرها، أن يبقى الحال على ما هو عليه، من دون أي تغيير أو تحديث، فالقديم الذي أعرفه، على علّاته، أفضل من الجديد الغامض. هكذا يقول أهل الحكم والسلطة في العالم العربي.
آخر جهود الإصلاحيين في الأردن إشهار «تحالف مدني» يطمح مؤسّسوه إلى تحويله حزباً يتولى تدشين عهد الدولة المدنية والمساواة وتكريس قواعد المواطنة وتكافؤ الفرص. وقد مُهِّدَ لهذا التحالف بطرق عصرية تتوخى إنتاج صورة إعلامية متقدّمة بأدوات تحاكي الوجدان العام وتعيد إنتاج أسئلته وهواجسه.
التحالف الذي يضم شخصيات ملتبسة وسجالية، وبعضها ذو تاريخ سياسي إشكالي، وُوجه بحملة من الإسلامويين الذين هاجموه، معتبرين أنه تيار علماني هدفه تقويض الدين ونشر قيم الليبرالية التي تتصادم مع روح المجتمع الأردني المحافظ في دينه وأخلاقه ورؤاه. كما كان ثمة خصوم غير متوقعين لهذا التحالف من لدن السلطة السياسية الرسمية، حيث أقدم محافظ العاصمة (الحاكم الإداري) على رفض منح التحالف موافقة على إطلاق مشروعه الذي كان مقدّراً له يوم الجمعة الماضي الواقع فيه الثاني والعشرين من الشهر الجاري.
فما بين رمضاء السلطة السياسية ولهيب الإسلامويين، يتقلّب التحالف المدني الذي ينظـــر إليه كثيرون على أنه منصة لخلق تيار بديـــل من التيارات الشعبوية التي تَجمع علــى برامجها الحشود، وتخوض في ضوء ذلك الانتخابات البرلمانية والبلدية وتفوز، ما يؤهلها لتعميم أفكارها التي أنتجت سلوكاً إقصائياً بحق المكوّنات الاجتماعية والسياسية الأخرى، وطردتها من حلبة السباق والمشاركة في صنع القرار.
مهمة، بلا ريب، شاقة تواجه «التحالف المدني» خصوصاً أنّ الخصوم كُثُر وغير متجانسين. فالدولة المدنية مصطلح مؤرّق لأصحاب الحكم والأيديولوجيا على حد سواء، فالطرف الأول يريد تأبيد مكاسبه، وعدم الاقتراب منها بذريعة المساءلة والمحاسبة ومكافحة الفساد، ورفض الأعطيات وتوزيع المناصب وَفق مصالح الطبقة الحاكمة، والطرف الثاني يريد أن يحكم الأرض بتصوّرات السماء، مستسيغاً لعبته القديمة المتجدّدة في توزيع صكوك الغفران على البشر ووسمهم بالخيرية أو الشرّانية.
في طريق اللظى يسير أنصار التيار المدني في العالم العربي، متمثّلين حيرة المتنبّي: «وسوى الروم خلف ظهرك رومٌ/ فعـلـــى أيّ جانبيك تميل»؟ وهي حيرة تثير الاستهجان من سلوك «الدولة» العربية في هــــذه القنطرة السياسية الراهنة. فهي دائمة الشكوى من هيمنة الخطاب الإرهابي وأفكار جماعات الإسلام السياسي التي تصدر عن روح وتطلعات فوق دولتية، وتسترشد بوصلة المرشد العام، وتبثّ التفرقة الدينية وخطاب الكراهية، إلى آخر هذه المعزوفة المشروخة التي سئم الناس سماعها.
ولما ينبري من يتطلع لإسناد السلطة السياسية في هذه الجهد، وطرح نفسه شريكاً أو بديلاً محتملاً لتقويض تلك الحركات، وبيان تهافت مقولاتها، ترتجف السلطة هلعاً، فهي بمقدورها أن تقيم توافقاً مع ذلك التيار التحشيدي الذي يحتكم إلى نص ديني، لكنها لا تستطيع أن تتواصل وتمدّ الجسور مع تيار يحاول أن يخلصها من تعسّف التأويلات النصيّة والإكراهات المتصلة بالمقدّس. لذلك نلاحظ في معظم الأنظمة العربية زواجاً عرفياً بين السلطة والتيارات الدينية، إلا من اختار العمل المسلح وانقلب على قواعد اللعبة، فصار الانقلاب المضاد عليه محتّماً وشرساً، وهو أمر يتقبله العقل. لكنّ ما يجافي المنطق هو أن يحارِب النظامُ العربي، وبالسلاح ذاته، التطرّف الديني والتيار التنويري، كأنما «التغيير» لعنة تصيب النظام العربي بالهستيريا!
الحياة